عدد الزيارات: 4.9K

الطفل الجميل


إعداد: الدكتور/ أحمد محمد زين المنّاوي
آخر تحديث: 20/03/2019 هـ 29-08-1439

عندما يعتمد البناء على الوهم..

عندما يؤسس المرء عقيدته على الأباطيل والأوهام.. يكون الهدم سريعًا وسهلًا..

يهدمها أضعف جند الله.. يعصف بها من جذورها.. حيث لا جذور لها!!..

صبي صغير في السن.. صبي فقير.. لا مال له.. صبي جاهل لا علم لديه.. يعصف بعقيدة أحد أكبر رجال الدين.. فتخيّل مدى ضعف هذا الدين وهذه العقيدة وهوانهما وتهالكهما!!..

تخيل إذا قرأت بإحدى الصحف خبرًا مفاده: إسلام أحد قساوسة الفاتيكان على يدي ماسح أحذية لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، فكيف سيكون ردّ فعلك؟ وأن هذا القسيس أصبح بعد إسلامه أستاذًا في الأزهر الشريف؟! هل تشك في صدقية الصحيفة أم ترتاب في سلامة عقلك؟!

الإجابة الصحيحة لا هذا ولا ذاك لأن الأمر قد وقع بالفعل مع بطل هذه القصة ألا وهو قس الفاتيكان الأسبق البريطاني الجنسية الذي سمّى نفسه "إدريس توفيق" عقب إسلامه فدعونا نبحر معه في رحلته الباهرة من المسيحية الكاثوليكية إلى الإسلام.. ومن الفاتيكان إلى الأزهر الشريف..

ولد الكاتب والإذاعي والكاهن البريطاني إدريس توفيق في اليوم الأخير من الشهر الأخير في عام 1957، ونشأ وترعرع في كنف النصرانية، وترقى في المراتب الكنسية حتى وصل إلى درجة قسيس، وحصل على درجة في اللاهوت المقدس من الجامعة البابوية سانت توماس الاكويني في روما، كما حصل على شهادة في اللغة الإنجليزية والآداب من جامعة مانشستر.

خلال زيارته لمصر قابل في أحد شوارع القاهرة صبيًّا يعمل ماسحًا للأحذية لم يتجاوز عمره الرابعة عشرة من عمره.. عندما رأى الطفل لون بشرته البيضاء تهلل وجهه بابتسامة كبيرة وحياه قائلًا: السلام عليكم.. كانت هذه التحية التي ألقاها ماسح الأحذية الصغير على القس الكاثوليكي السابق بالفاتيكان مدخله إلى معرفته الإسلام على حقيقته واعتناقه؛ ذلك أنه لم يكن يعرف عن الإسلام سوى أنه دين عنف وتعصّب، وأن المسلمين أشخاص سيئون جدًّا، يقطعون الأيدي، ويقتلون الأبرياء، وغير ذلك من الاتهامات التي تروج لها الكنيسة عن الإسلام.. ولكن زيارته للقاهرة ومشاهدته للمسلمين على حقيقتهم نسفت كلَّ هذه الأباطيل!

يقول إدريس توفيق في ذلك: "وككل البريطانيين اقتصرت معرفتي عن الإسلام على ما كان الإعلام يبثه من قتل وتفجير وكل ما يعطي انطباعًا بهمجية الإسلام.. ولكن وصولي إلى القاهرة وما شاهدته هناك غيّر نظرتي لهذا الدين.. أناسٌ بسطاءٌ يبيعون بضاعتهم في الشارع يذرون بيعهم ليتوجهوا إلى الله ساعة سماعهم لنداء الصلاة، أدركت مدى عظمة إيمانهم بوجود الله فهم يصلون ويصومون ويساعدون المحتاج ويحجّون إلى مكة آملين برغد العيش في الآخرة".

وطوال فترة الأسبوع التي قضاها في القاهرة كان إدريس توفيق يمر على ذلك الصبي ماسح الأحذية ويجالسه ويمازحه، فتعلم منه بعض الكلمات العربية، وكان يحييه بقول "أزيك يا جميل" وكان الصبي يرد على تحيته بقوله الحمد لله.

غادر بطل قصتنا القاهرة عائدًا إلى لندن حيث يعمل بتدريس مختلف الديانات للأطفال في إحدى المدارس، وفي ذهنه صورة مختلفة تمامًا عن الإسلام والمسلمين.. وكان بين تلاميذه أطفال من اللاجئين العرب المسلمين، وعلى خلاف بقية المراهقين كان هؤلاء الطلبة المسلمون مثالًا يحتذى به في اللطف والأدب.. حتى ذلك الوقت لم يكن يعرف عن الإسلام إلا ما لقن له منذ صغره، ولذلك قرّر أن يحصل على معلومات صحيحة عن الإسلام يستعين بها في تدريس التلاميذ.

بدأ إدريس توفيق يقرأ كتبًا عن الإسلام وكان إعجابه بهذا الدين يزداد كلما قرأ عنه أكثر بل كانت الدموع تغمر عينيه عندما يأتي ذكر النبي مُحمَّد –صلى الله عليه وسلّم-.. عندما جاء شهر رمضان لم يجد الأطفال المسلمين مكانًا للصلاة في المدرسة سوى الفصل المخصص لبطل قصتنا لأنه المكان الوحيد الذي يحتوي على سجادة.. سمح لهم ادريس بالصلاة في الفصل وكان يجلس في الخلف يراقب تصرفاتهم ليعرف ما يفعلونه أثناء الصلاة.. توجه بعدها للإنترنت ليحصل على معلومات حول كيفية صلاة المسلمين. 

بنهاية شهر رمضان استطاع إدريس توفيق أن يتعلم من تلاميذه أصول صلاة المسلمين، بل فاجأهم بصيامه معهم شهر رمضان كاملًا مع أنه لم يكن مسلمًا.. عقب ذلك هداه الله سبحانه وتعالى إلى الإسلام فنطق بالشهادتين، حيث يقول في ذلك: "وفي أحد الأيام توجهت إلى أكبر مسجد في لندن لمعرفة المزيد عن هذا الدين وهناك قابلت أحد الأشخاص الذين اعتنقوا الإسلام يجلس في دائرة وقد تحلق حوله الناس يحدثهم عن الدين، وحين انتهى من حديثه سألته ماذا عليّ أن أفعل لأكون مسلمًا؟ أجابني أنه عليّ الإيمان بالله الواحد وصوم رمضان والصلاة خمس مرات في اليوم، فقاطعته قائلًا بأني أفعل كل هذه العبادات.. سألني حينها ماذا أنتظر إذن لإشهار إسلامي؟ رفضت آنذاك اعتناق الإسلام إذ لم تكن نيتي أن أترك ديني السابق وأشهر إسلامي، ولكن رفع الأذان واصطفّ المصلّون وبدأت أرقبهم ودموعي تنهمر على وجهي.. قررت أنني لن أخدع نفسي بعد اليوم وتوجهت عقب انتهاء الصلاة إلى ذلك الشخص نفسه وهو يوسف إسلام وطلبت منه أن يعلمني ما عليّ قوله لإشهار إسلامي، وبعد أن شرح لي معاني لا إله إلا الله محمد رسول الله رددت وراءه الشهادتين باللغة العربية ودموعي لا تكفّ عن الانهمار".

اعتنق إدريس توفيق الإسلام عقب مرور عام ونصف العام منذ مقابلته للصبي "الجميل" ماسح الأحذية في أحد شوارع القاهرة.. قضى توفيق الفترة الواقعة بين مقابلة الصبي واعتناق الإسلام في التفكير ومقابلة بعض علماء المسلمين إلى جانب القراءة المكثفة عن الإسلام.

وهنا يقول إدريس توفيق: "كلما قرأت أكثر عن الإسلام تعرّفت إلى مسلمين أكثر وخلال عام ونصف العام تعرّفت إلى العديد منهم وكنت سعيدًا بوجودي معهم واتضح لي أنهم ليسوا بالصورة التي رسمها الإعلام الغربي عنهم وهذا كان قبل أحداث 11 سبتمبر 2001 مباشرة".

عقب اعتناقه الإسلام ذهب إدريس إلى المدرسة فأخذ المدرسون يصفقون له لأنهم كانوا يحبونه.. دخل بعد ذلك مكتب مدير المدرسة وسأله إن كان يتوقع أن يقول له إنه دخل الإسلام فرد عليه المدير بقوله: "كلنا كنا نتوقع هذا".

وعن الطريقة الصحيحة للدعوة إلى الإسلام في الغرب ينصح توفيق بأن يتعلم الدعاة كيفية مخاطبة البسطاء باللغة السهلة البسيطة التي يفهمونها لا تلك المعقدة التي يقتصر فهمها على المستنيرين فقط.. كما أن على الدعاة إذا ذهبوا يدعون الناس في الغرب ألا يقولوا لهم أنتم على خطأ، إذ قد يكون كل تفكيرهم منصبًّا على كرة القدم أو السيارات أو المشتريات وبالتالي ربما لم يفكروا في الله على الإطلاق وعليه تكون الطريقة المثلى للتخاطب معهم عبر حياتهم العادية باعتبار أن الإسلام يمثل الديانة الطبيعية لكل المخلوقات منذ بدء الخليقة فهو يخاطب قلوب الجميع برسالته العالمية شديدة البساطة التي تتلخص في توحيد الإله الذي ليس بينه وبين عباده وسيط.

يتحدث توفيق عن علاقته بأصدقائه القدامى عقب إسلامه بأنه ابتعد عنهم بشكل محترم يشبهه بالطلاق.. فهو كما يقول يحبهم من كل قلبه وبالتالي لا يستطيع أن يفعل شيئًا يسيء لهم أو للكنيسة.

ما أثلج صدر إدريس توفيق أن أسرته البريطانية التي عرفت بحبها له لم يؤثر اعتناقه الإسلام في علاقتها به بل وصل تقبّل أمه للأمر درجة جعلتها تذهب للكنيسة وتهدي مؤلفاته الإسلامية إلى أصدقائها والتي من بينها على سبيل المثال سلسلة Ask About Islam أو اسأل عن الإسلام.

في حوار أجرته معه شبكة الألوكة في شهر مايو عام 2013، يقول إدريس توفيق: "بعد أن أسلمت بدأت أعلم وأفهم الإسلام بصورة كبيرة، وعندما يتقبل الناس الإسلام يتقبلونه لبساطته؛ فالإسلام بسيط جدًّا، ولأنه دين عظيم ودين كبير خاطب جميعَ الثقافات، وجميع الخلق.. ولذلك فأنا أدرِّس للتلاميذ الثقافة الغربية، وأعلِّم المسلمين كيف يتحدثون عن الإسلام.. وأبلغ الناس جميعًا في جميع أنحاء العالم كيف يكونون مسلمين جيِّدين، ولغير المسلمين ألا يخافوا من الإسلام، والشيء الخاص الذي يميِّزني هو أنني أفهمُ الكنيسة، وأعرف قادة الكنائس، فأعرفهم كاسمي، فأنا أجول العالَم، وأتكلَّم مع قادة العالم المسيحي، وقادة الكنائس، وأتكلَّم معهم عن حقيقة الإسلام، وأنا أفهم ما يدور في عقولهم، وخصوصًا بعد ثورات الربيع العربي، فقد تضاعف خوف المسيحيين على مستقبلهم، وماذا سيحدث لهم؛ ولهذا سافرت لمعظم دول العالم، وشرحت لجميع قادة العالم المسيحي حقيقة الإسلام وأنه لا يمثل أي خطر عليهم".

ومواصلة لحديثه في الموضوع ذاته، يرى إدريس توفيق أن المسلم إن طبق الإسلام في حياته كما ينبغي يمكن أن يكون سببًا في إسلام الكثيرين حيث قال: "من يشاهدني لا يدرك أنه يستطيع التأثير في الآخرين من خلال المعاملة الحسنة ولو عبر ابتسامة وليس بالكلام.. لسنا بحاجة لأن نعطي الغير محاضرات، كل ما هو مطلوب منك أن تقول إنك مسلم ويجب أن تذهب للصلاة الآن.. لو كل فرد فينا عاش كمسلم جيد فالعالم سيرانا بشكل جيد وسيحبوننا.. أنا أعتقد أن السلوك الصحيح والأسلوبَ الجيد هو أسهل الطرق لتوصيل الصورة الصحيحة عن الإسلام.. وعلى المسلمين تطبيق ما يدعو له الإسلام حتى يحترمهم أهل الغرب حتى لو أضمروا لهم العداء".

وأشار توفيق إلى أن الناس في الغرب لا يعلمون شيئًا عن الإسلام، وهذا الأمر ليس خطأهم، لافتًا النظر إلى أننا لم نخبرهم بالإسلام على المنهج الصحيح، فهذا خطؤنا، وإخبارهم لا يكون بالكلمات فقط، فالكلمات أمر شديد السهولة، بل علينا إخبارهم بالمثال الجيد للمسلم، لأن بعض المسلمين في إنجلترا مثلًا يقدّمون صورة سيئة للإسلام.

ونختتم هذه القصة برسالة وجهها توفيق للصبي ماسح الأحذية الذي تسبب في فتح عينه وقلبه على حقيقة الإسلام بابتسامته البريئة وحديثه الطيب حيث قال في حقه: "هذا الصبي لا يعرف أني أسلمت ولكنه يوم القيامة سيفاجأ عندما تقرأ حسناته الملائكة بأنه فعل هذا وهذا.. ولكنه فعل الكثير خاصة وقام بأعمال أخرى بشكل غير مباشر مثل تسببه في اعتناق الكثير للإسلام من خلالي".

في السابع عشر من شهر فبراير من عام 2016 توفي بطل قصتنا إدريس توفيق بعد صراع طويل مع المرض، وقد ترك بعد وفاته رسالة مؤثرة ذكر فيها باختصار قصة اعتناقه "دين السلام" وقد اقتبسنا لكم منها بعض الفقرات.

لذا.. لا تستصغر أي مخلوق لله.. فقد يضع الله فيه سرًّا وقوة تبهر العالم أجمع..

العجيب أن هذا المخلوق الصغير قد لا يدرك هو نفسه ما قام به!!.. فهو لم يقم حقًّا.. إنه مجرد سبب.. أداة في قدرة الله..

كذلك.. لا تستبعد الهدى عن نفسك.. فالهدى قد ينساب إلى قلبك دون أن تدري..

إنها إرادة الله القادر على كل شيء..

اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.

----------------------------- 

المصادر:

البروفيسور إدريس توفيق؛ الصفحة الرئيسية على فيسبوك: www.facebook.com/IdrisTawfiq

المراكبي، عبدالرحمن (5 مايو 2013)؛ حوار مع البروفيسور إدريس توفيق ورحلته من الفاتيكان إلى الأزهر؛ موقع شبكة الألوكة: www.alukah.net

مادة صوتية بعنوان: "قصة إسلام القس السابق إدريس توفيق"؛ بثتها قناة الرحمة الفضائية، واسترجعت بتاريخ 9 أغسطس 2017 من موقع اليوتيوب: www.youtube.com/watch?v=s2fVKGmvuIs

Abdulaziz, Manal (02 Jul 2007). Stories of New Muslims: Idris Tawfiq, Catholic Priest, UK. Retrieved August 10, 2017, from: www.islamreligion.com.

 


تعليقات (
0
)

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وإنما هي وجهات نظر أصحابها فقط.