عدد الزيارات: 1.8K

المسيح الآن


إعداد: الدكتور/ أحمد محمد زين المنّاوي
آخر تحديث: 20/03/2019 هـ 29-08-1439

كثيرون هم من يهديهم الله إلى دين الإسلام..

وقليلون منهم من يصبحون دعاة إلى الإسلام في بيئاتهم ومجتمعاتهم..

وأقل القليل منهم من يترك وراءه كتبًا وعلمًا يُنتفع به من بعد وفاتهم.. فيكون صدقة جارية تسهم بإذن الله في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وتصحيح المفاهيم المغلوطة عنه وإنقاذ غيرهم من النار بإذن الله..

بطل قصتنا من أقل القليل..

عوامل عديدة تضافرت في إخلاص لكي تجعله يحظى بطفولة هانئة سعيدة ومركز اجتماعي مميز.. نشأ في بيت جمع بين حسنات العلم والحسب والنسب والشهرة، فضلًا عن الحنان الزائد الذي خصته به أسرته بحسبانه الابن الذكر الوحيد بين مجموعة من الأخوات الإناث.. إنه رالف ابن البارون كريتسيان إهرينفلز مؤسس التركيبة الحديثة في مدرسة الجشطالت في علم النفس بالنمسا، وأخ الشاعرة المرهفة المعروفة إيما إهرينفلز.

دون أن يعلم السر وجد رالف نفسه ومنذ بواكير صباه يشعر بانجذاب عجيب نحو الشرق بصورة عامة، ونحو الشرق الإسلامي وأهله على وجه الخصوص.. لم تحل دون ذلك الانجذاب حقيقة أنه لم ير الشرق يومًا ولا حتى في أحلامه.. فسّر الوالد البارون كريتسيان انجذاب ابنه العجيب بتأثره بالحكايات الشرقية المدهشة التي كان جميعهم يسمعونها والتي من بينها حكايات ألف ليلة وليلة.

عندما شب رالف عن الطوق توسعت دائرة مداركه وتبعتها دائرة تحركاته التي شملت العديد من بلدان العالم.. في عنفوان شبابه سافر إلى تركيا ودول البلقان، واختلط بمسلمين ينتمون إلى جنسيات متعددة (أتراك وألبان وبوسنيين.. الخ) فأعجب بهم غاية الإعجاب.. كان يجد نفسه وكأن قوة مغناطيسية خفية تجذبه ليسير وراء الجموع التي تقصد المسجد في أوقات الصلاة.. بل كان يصلي معهم في الخفاء دون أن يتخلى عن نصرانيته.. ظن الكثيرون أنه مسلم، أما القلة الذين كانوا يعلمون بنصرانيته فآثروا الصمت وعدم البوح بها آملين من الله تعالى أن يهديه إلى الإسلام.

المقابلة الحسنة التي وجدها من المسلمين الذين رحبوا به برغم علمهم بنصرانيته جعلته يعيد النظر في الكثير من أمور عقيدته النصرانية.. تنهد بعمق حينما تأمل وقائع هذه العقيدة المزيفة، وازدرد ريقه بمرارة حينما تكشف أمامه ضلال معتقداتها المحرفة الفاسدة.. بل تنهد في حسرة حينما تراءى أمامه البون الشاسع الذي يفصل تلك العقيدة عن كل ما هو إنساني بتقتيلها لأبناء الشعوب الأخرى واستغلالها لمواردها ومقدراتها باسم المسيح الذي تنادي تعاليمه الحقيقية غير المحرفة بعكس ما يفعلونه.. بل لو بُعث المسيح –عليه السلام- الآن لتبرّأ منهم واتبع الديانة الاسلامية التي يحاربونها في شراسة ويقتلون أبناءها باسمه!

وقد ثبت بالفعل أن المسيح عيسى -عليه السلام- سوف ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ولا يقبل من النصارى إلا الإسلام، وقد دلت على هذا مجموعة من النصوص الشرعية المتعددة.

التنامي المتصاعد لشكوكه في صحة عقيدته النصرانية تبعه اهتمام متزايد بالإسلام، الأمر الذي دفعه إلى دراسة هذا الدين العظيم حتى يكتشف حقيقته ويعلم جوهره.. أوصلته دراسته للإسلام إلى حقائق باهرة وردت في القرآن الكريم، مفادها أن الرسالات السماوية جميعها أتت من مصدر واحد، وأنها كلها تدعو إلى ما يدعو إليه الإسلام من عبادة الله الواحد الأحد الذي لا شريك له في ملكوته.. حينها فقط أدرك -وللمرة الأولى في حياته– واستوعب تمامًا أن لفظة "إسلام" تعني التسليم بوحدانية الله تعالى، وعبادته بإخلاص في السر والعلن.

من ناحية أخرى شدّته بقوة روح الأخوة الإنسانية السمحة التي نادى بها الإسلام حينما ساوى بين الأفراد دونما تفريق إلا بتقوى الله تعالى وكذلك الحال مع الأمم التي لم يميز بينها إلا بالصلاح ونفع العباد.. نعم انبهر بقوة لموقف الإسلام الذي يرفض كل أشكال التمييز العرقي أو الاجتماعي أو الحضاري ويجعل معيار المفاضلة بين الناس مقتصرًا على التقوى التي ما التزمها أحد حتى سلم الناس من شره وأذاه وحظوا بخيره وحبه. 

أكثر من هذا كله، ساعدته دراسته في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) على التعرّف إلى العديد من محاسن الإسلام، الأمر الذي جعل الإيمان يتسرب في نعومة إلى سويداء قلبه وتلافيف دماغه خاصة عندما قرأ سيرة سيد المرسلين محمد بن عبدالله –صلى الله عليه وسلّم-.

وما أن حل عام 1927م حتى أضيف للأمة الإسلامية فاروق جديد قلبه مملوء بحب الإسلام، اذ اعتنق رالف إهرينفلز الإسلام، واختار لنفسه اسم "عمر" تيمنًا بالخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.. وعقب إسلامه ازداد حبه للإسلام وازداد ارتباطه بالمسلمين، كما أصبح مهمومًا بقضايا الأمة الاسلامية التي صار واحداً منها.. في عام 1932م زار البارون عمر شبه القارة الهندية واضعًا نصب عينيه ما يشيعه أعداء الإسلام عن مكانة المرأة ووضعها في الإسلام، فدافع عن ذلك في جسارة فارس مغوار، مؤكدًا في موضوعية المكاسب العظيمة التي نالتها المرأة في ظل الإسلام والتي لم تحظ بها حتى في أكثر دول الغرب تحضّرًا.. وضح في جلاء ما أعطته الشريعة الإسلامية السمحة للنساء من حقوق وردت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة.

اهتمام البارون عمر بالمشكلات الحضارية للمرأة المسلمة غيّرت الصورة السلبية التي رسمتها الكنيسة في أذهان الغربيين، حيث أوضحت دراساته للرأي العام الغربي حقائق كثيرة أكدت لهم أن المرأة في الإسلام نالت من الحقوق والاحترام ما لم تنله نظيراتها في الديانتين النصرانية واليهودية.

عقب عودته إلى النمسا تخصص عمر إهرينفلز في دراسة المشكلات الأنثروبولوجية للثقافات الأموية في الهند، حيث وجدت كتاباته قبولًا واسعًا ورواجًا كبيرًا في أوساط المثقفين، الذين أعجبوا كثيرًا بالثقافة الهندية دون أن يدركوا أن لها أصولًا إسلامية.. إثر هذا الرواج الكبير لمؤلفاته حول هذا الجانب قامت جامعة أكسفورد بنشر كتابه الأول في هذا المجال كواحد من سلسلة إصدارات الجامعة العثمانية بحيدر آباد.

في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين سافر عمر إهرينفلز إلى الهند مرة ثانية استجابة لدعوة من السير أكبر حيدري، وذلك عقب اجتياح القوات النازية للنمسا في عام 1938م.. في رحلته الثانية إلى الهند هذه ركز البارون عمر على الجنوب الهندي حيث أجرى دراسات ميدانية في مجال الأنثروبولوجيا.. وتوثقت صلته أكثر فأكثر بالهند التي أحبها من كل قلبه، فترأس قسم الأنثروبولوجيا في جامعة مدراس.

ما يحمد للبارون عمر إهرينفلز الدور الكبير الذي لعبه عبر دراساته العلمية في توضيح الكثير من الأمور المهمة التي كانت خافية على الأوروبيين حول الإسلام والمسلمين، إذ كشفت تلك الدراسات الكثير من أفضال الإسلام والمسلمين على العالم، حيث بيّنت حقيقة أن البلاد الإسلامية كانت مشعلًا للحضارة في وقت رزحت فيه أوروبا تحت نير الحكم الكنسي المتعصب الذي أصابها بالتخلف والجمود نتيجة لمحاربته العلم وممارسته الدجل والتضليل بغرض استغلال موارد العباد.. وإلى جانب دراساته ومؤلفاته تمكّن عمر إهرينفلز عبر مناقشاته العلمية من توضيح الكثير من الجوانب المضيئة في تاريخ الإسلام الحضاري، أسهمت تلك المناقشات في تعديل الصورة الذهنية السلبية التي كانت تعشعش في أذهان المثقفين الغربيين عن ذلك التاريخ ومن بين هؤلاء أخته الشاعرة إيما، التي أصبحت بسبب دراساته ومؤلفاته ومحاضراته شغوفة بالحضارة الإسلامية، حيث بدأت تهتم كثيرًا بالأدب الإسلامي وتسهم بفعالية في إبرازه.

وحتى لحظة انتقاله إلى رحاب الله تعالى كان البارون عمر يحرص على التأكيد -لكل من يلقاه- قصب السبق الذي تفرّدت به الحضارة الإسلامية في كل المجالات، وعلى عالمية رسالة الإسلام الخالدة خاتمة الرسالات.. ولم يتوقف هذا التأكيد إذ استمر حتى عقب وفاته لأن مؤلفاته الإسلامية والعلمية اضطلعت بالدور ذاته الذي كان يقوم به في حياته..

فهي بمنزلة صدقة جارية.. ستستمر تصب في ميزان حسناته..

فهكذا هم أصحاب الهمم العالية.. لا يتوقفون عن العطاء.. لا يتوقفون عن التميز..

وأنت؟!.. ندعوك للاقتداء بالبارون.. الفاروق.. عمر..

قد لا يسعفك الجهد والعلم لتأليف الكتب..

مجرد إسلامك هو نعمة عظيمة لا تتنازل عن الفوز بها!

النجاة.. النجاة.. هي ما يجب أن تحرص عليه..

إنه الخلود.. إما جنة.. وإما نار.. أعاذنا وأعاذكم الله..

اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.

------------------------------

المصادر:

الألفي، أسامة (2005)؛ لماذا أسلموا؟ القاهرة: أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي.

مجلة الفيصل؛ البارون عمر إهرينفلز رباط خفي جذبه إلى الإسلام؛ العدد 222/ السنة 1415هـ.

 


تعليقات (
0
)

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وإنما هي وجهات نظر أصحابها فقط.