القرآن الكريم هو كتاب هداية ومنهج وعمل، كما أنه كتاب تأمّل وتدبّر وتفكّر، وهو الحُجَّة البالغة التي تخاطب العقل والوجدان والروح معًا في كل زمانٍ ومكانٍ بالبراهين والأدلَّة المادية الدامغة التي تذعن معها الفطر السليمة وتُسلّم بها، فتنقاد للحق وهي راضية مختارة. وكلما اكتشف العلماء حقائق علمية جديدة وجدوا القرآن الكريم قد سبقهم بالإشارة إليها، فنحن في كتاب الله أمام معجزة مستمرة ومتجدّدة تأتي في كل عصر بإعجاز جديد يناسب اختصاص أهل ذلك العصر واهتمامهم.
لقد نزل هذا القرآن الكريم في القرن السابع الميلادي، ومرّ على نزوله أكثر من أربعة عشر قرنًا، ولا يزال هذا الكتاب العجيب يكشف لنا يومًا بعد يوم وجيلًا بعد جيل مزيدًا من عجائبه، وفي كل الميادين.. في ذلك الزمان الغابر لم يكن أحد يعلم شيئًا عن تطوّر الأجنة في الأرحام، وتكوّر الليل والنهار، والرتق والفتق الكوني، وتوسع الكون، ومواقع النجوم، والبحر المسجور، وتعدد مطالع الشمس ومغاربها، ورفع السماء بغير عمد، والظلام الكوني، والضغط الجوي ونقص الأوكسجين، والحاجز الكيميائي بين البحرين، والجبال ووظائفها، وحقيقة السحب والأمطار، وغير ذلك من الحقائق العلمية التي يكتشفها البشر تباعًا فيجدونها موصوفة في القرآن الكريم بشكل مدهش وبدقة متناهية. ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرًا لهذه الحقائق العلمية في القرآن الكريم غير الله الخالق الذي أنزله بعلمه، وأورد فيه مثل هذه الحقائق الكونية لتكون شاهدة على مر العصور والأجيال بأن هذا القرآن كلامه ووحيه إلى خاتم رسله وأنبيائه مُحمَّد –صلى الله عليه وسلّم-.
إن العديد من العلماء والباحثين اللامعين في الدول الغربية اعتنقوا الإسلام نتيجة لما وجدوه من إعجاز علمي للقرآن كل في مجال تخصصه ومن بين هؤلاء العالم الجيولوجي ريتشارد فيرلي بطل هذه القصة.
درس ريتشارد فيرلي علم الجيولوجيا في جامعة أكستر جنوب غرب بريطانيا.. عقب تخرجه في عام 1982 عمل ضابطًا في الشرطة وتحديدًا في شعبة مكافحة الإرهاب.. في السادس والعشرين من شهر سبتمبر من عام 1988 نشر سلمان رشدي (وهو كاتب بريطاني من أصول هندية) روايته التي تحمل اسم "آيات شيطانية".. أثارت تلك الرواية غضب المسلمين بشدة.. وبحكم عمله كضابط شرطة كان الأمر يتطلب من ريتشارد فيرلي أن يقرأ تلك الرواية بعناية لمعرفة الأمر الذي ضايق هؤلاء المسلمين، كما كان عليه أن يقرأ القرآن الكريم الذي طعنت تلك الرواية في قدسيته.. عند قراءته للقرآن توقف ريتشارد فيرلي عند ثلاث آيات ترتبط بمجال تخصصه كجيولوجي أثرت في عقله ووجدانه على السواء.. ولتقريب الصورة نذكر بأن الجيولوجيا هي علم دراسة الأرض من حيث تركيبها وكيفية تكوينها والحوادث التي وقعت عليها منذ نشأتها الأولى حتى تاريخنا المعاصر.
ومن هذه الآيات التي هزت ريتشارد فيرلي هي قول الله تعالى في سورة النبأ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) النبأ.. تمعّن فيرلي جيِّدًا في تفسير هاتين الآيتين وراجع ما درسه في مجال الجيولوجيا، ثم قرأ كثيرًا من المؤلفات التي كتبت في هذا المجال.. فحقيقة أن الجبال تزيد على ارتفاعها الظاهر بعدة مرات هو أمر لم يثبته العلم إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، بل أصبح من المعلوم أن للجبال جذورًا مغروسة في الأعماق تصل إلى ما يعادل 15 مرّة من ارتفاعاتها فوق سطح الأرض، كما أثبتت النظريات العلمية الدور الكبير الذي تلعبه هذه الجبال في إيقاف الحركة الأفقية الفجائية لصفائح طبقة الأرض الصخرية! وهنا تساءل فيرلي منبهرًا: من أين أتي رجل أمّي بهذه المعلومات قبل مئات السنين من اكتشافها إن لم يكن القرآن هو بالفعل كلام الله تعالى الذي أوحى به إلى رسوله محمَّد –صلى الله عليه وسلّم-؟!
آية أخرى من القرآن الكريم أصابت فيرلي بفيوض من الدهشة والانبهار وهي تلك التي يقول فيها الله تعالي: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) الذاريات.. فمن خلال قراءته التي استغرقت أشهر عديدة عرف بطل قصتنا أن عالم الفلك الأمريكي أدون هابل الذي كان يعمل في مرصد جبل ويلسون في كاليفورنيا، توصل في عام 1929 إلى واحد من أعظم الاكتشافات في تاريخ علم الفلك، حيث رصد ولأوّل مرّة ابتعاد المجرات عن بعضها بعضًا بشكل مستمر وبسرعات هائلة، وأن الكون المدرك لا يزال مستمرًّا في توسعه منذ نشأته حتى الآن، وهو عين ما تقوله هذه الآية الكريمة.
آية أخرى تعجّب منها فيرلي كثيرًا، وهي قوله سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) الأنبياء.. قرأ فيرلي تفسير هذه الآية الكريمة وعرف أنها تشير إلى كيفية نشأة الكون وبداية الخلق، حيث ظل علماء الفلك والفيزياء الفلكية يجاهدون لقرون من الزمن في تصور لحظة ميلاد هذا الكون ولم يتمكنوا من شيء من ذلك، وإنما توصلوا إلى نظرية الانفجار العظيم (Big Bang)، وهذه النظرية هي أكثر النظريات قبولًا في علم الكون الفيزيائي اليوم، نظرًا إلى استنادها إلى عدد من الحقائق المشاهدة.
فقط في نهاية عشرينيات القرن الماضي توصل العلم إلى أن الكون كان كتلة واحدة ثم انفجر وتباعدت أجزاؤه التي تشكلت منها المجرات والنجوم والكواكب والأجرام السماوية الأخرى.. وهذا هو نفسه حقيقة (الفتق الكوني) الذي تتحدث عنه هذه الآية، وهو أفضل تفسير توصل إليه العلماء بشأن نشأة الكون حتى الآن!
وتتلخص فكرة هذه النظرية في أن الكون في بداية نشأته وقبل مليارات السنين كان جزءًا واحدًا وفي حالة حرارة شديدة الكثافة فانفجر وتمدد وبَرُد بسرعة فائقة، ومعظم الذرات التي نتجت من ذلك الانفجار العظيم كانت من الهيدروجين والهيليوم مع القليل من الليثيوم، ثم التأمت سحب عملاقة من تلك العناصر الأوّليّة بالجاذبية لتكوّن المجرات والنجوم التي نشاهدها اليوم.
تشير الحسابات الفيزيائية إلى أن حجم الكون قبل الانفجار العظيم كاد يقترب من الصفر، وكان في حالة غريبة من تكدس كل من المادة والطاقة، وتلاشي كل من المكان والزمان، وتتوقف عندها كل قوانين الفيزياء المعروفة، وهي ما أشار إليها القرآن بمرحلة (الرتق)، ثم انفجر هذا الجرم الابتدائي الأولي في ظاهرة كبرى تعرف بظاهرة الانفجار الكوني العظيم، وهو ما أشار إليه القرآن بمرحلة (الفتق) حيث تحول بهذا الانفجار إلى كرة من الإشعاع والجسيمات الأولية أخذت في التمدد والبرودة بسرعات فائقة حتى تحولت إلى غلالة من الدخان الذي خلقت منه السماوات والأرض.
هذه الآيات القرآنية التي تتحدث عن حقائق علمية لم تكتشف إلا حديثًا كانت كفيلة بأن تقنع فيرلي بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من تأليف بشر مهما بلغ من العلم.. وبعد عامين من القراءة المتعمقة والمتواصلة والمكثفة في القرآن، وتردده على المركز الإسلامي في منطقة ريجنت بارك بوسط لندن، اعتنق فيرلي الإسلام في صباح 19 أغسطس عام 1993 وتذوق لأول مرة في حياته طعم الإيمان وصفاء النفس كما اكتشف مصدر السعادة الحقيقية.. ومن لطف الله عزّ وجلّ وتدبيره له أن جعل من رواية "آيات شيطانية" مدخلًا عجيبًا لهدايته.
عقب اعتناقه الإسلام فكر فيرلي في إنشاء رابطة للمسلمين في الشرطة الإنجليزية على الرغم من قلة عدد المسلمين العاملين في الشرطة الإنجليزية، إذ كان هناك فقط بعض الباكستانيين.. تعرّف فيرلي إلى رجل مسلم شجعه على إنشاء الرابطة وبالفعل تم إنشاؤها في عام 2000، وأصبح رئيسًا لها، كما أنشؤوا لها موقعًا إلكترونيًّا باسم "Association of Muslim Police".
أسهمت تلك الرابطة فور إنشائها في إيصال صوت الأفراد والضباط المسلمين في بريطانيا لأصحاب القرار في وزارة الداخلية والحكومة البريطانية، فسمح للشرطية المسلمة لأول مرة بارتداء الحجاب كما سمحت الحكومة البريطانية بتخصيص مصليات للنساء.
يختتم لنا فيرلي هذه القصة بقوله: "أما اللحظات التي أعجز عن التعبير عنها بعد إسلامي فهي لحظات جاءت بعد 17 عامًا كنت أوجه فيها وجهي من لندن شطر الكعبة المشرفة بمكة المكرمة خمس مرات في اليوم، وأخيرًا وجدت نفسي فجأة وجهًا لوجه أمام هذا النور الذي يملأ جنبات الحرم المكي الشريف، كنت أؤدي العمرة، فوددت لو أنني قضيت بقية عمري في هذا المكان، ودعوت الله عزّ وجلّ في مقام إبراهيم وأثناء الطواف أن يكتب لي الركن الخامس وينعم على بشعيرة الحج.. استجاب الله لي ولا أعرف ما أصابني أنا الضابط المتمرس المدرب جيدًا، فقد وجدت نفسي فجأة أبكي بشدة والدموع تنهمر من عيني، ولا أعرف حتى الآن سر هذا البكاء.. لكنني شعرت بأنني قريب للغاية من الله عزّ وجلّ، وشعرت بعلامات كثيرة على أن هذا الدين حق وكتابه منزل من السماء".
إنها شهادة حق على دين الحق وكتاب الحق من الإله الحق!!
الحق الأعظم.. الحق الذي عجزت أمامه "الآيات الشيطانية".. بل حولها إلى مدخل وباب للإيمان دخل منه الكثيرون.. فتخيل كيف يحول هذا الدين الحق الشيطان إلى ناطور يقف على باب الإيمان.. يفتحه رغمًا عنه للمسلمين الجدد!!
هل ما زال المكذبون بهذا الدين في احتياج إلى دعوة للإيمان؟!!
اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.
-----------------
المصادر:
جمعية النجاة الخيرية؛ سلسلة قصص مشاهير المهتدين (17): ريتشارد فيرلي.
مقال بعنوان: "كبير مفتشي فرقة مكافحة الإرهاب البريطانية.. مسلم"؛ استرجع بتاريخ 16 يونيو 2017، من موقع قناة العربية: http://www.alarabiya.net
صحيفة الشرق الأوسط اللندنية (13 فبراير 2010)؛ حوار مع الضابط البريطاني ريتشارد فيرلي.