عدد الزيارات: 7.0K

الهبوط إلى أعلى!


إعداد: الدكتور/ أحمد محمد زين المنّاوي
آخر تحديث: 20/03/2019 هـ 18-04-1438

من جديد.. يتنازل من يظن الناس أنهم في سعادة.. عن هذه السعادة!!

لأنها ببساطة.. سراب سعادة.. يحسبه الظمآن سعادة.. حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا..

فالسعادة ليست في أن يتوفّر للإنسان كل ما يريد من متع الحياة، وإلا لكان أسعد الناس هم الأغنياء، وربما كان ذلك من تمام عدل الله عزّ وجلّ في هذا الكون.. والكل في هذا الوجود لا يكف عن بحثه الدؤوب عن كيفية تحصيل السعادة الحقيقية. فكم من صاحب شهرة أو مال أو منصب أو جمال، ومع ذلك عاش حياته كلها كئيبًا تعيسًا يتعالج لدى الأطباء النفسيين، أو تخلّص من حياته التي سادتها التعاسة والشقاء، فقرّر الانتحار لينهي همّه وغمّه وتعاسته!! المطربة العالمية المشهورة (داليدا) تقول في رسالتها الأخيرة التي كتبتها في آخر لحظة من حياتها قبل أن تنتحر: "الحياة لا تحتمل.. سامحوني"!!

بلغت بطلة قصتنا هذه من المجد والشهرة ما تتمناه الفتيات ذوات الأحلام النرجسية عصيَّة التحقُّق.. قدر لها أن تصبح نجمة سينمائية ومسرحية يحيط بها الآلاف ويعجب بها الملايين.. مع الشهرة الغامرة والأضواء الباهرة كان القلق وعدم الاستقرار يخنقان أعماقها المهترئة.. فعلى الرغم من حياتها المثقلة بالترف والرفاه الماديين كانت تحس بأن شيئًا ما ينقصها.. للحصول على الطمأنينة وهدوء البال بدأت تبحث عن حياة أخرى فكان لها ما أرادت وزيادة.. إنها الفنانة الألمانية الشهيرة "كارولا".. غيَّرت "كارولا" اسمها إلى "سكينة".. هذا هو ما حدث لبطلة قصتنا.. أما كيف فهذا هو ما سوف نتعرّف إليه من خلال هذه القصة.

في أحد الأيام وبينما كانت النجمة كارولا تجلس في فيلتها التي تقع في ضواحي برلين أخذت تفكر في الحياة التي تعيشها، حيث لم يمدّها رفاهها المادي بقطرة بل بذرة من سعادة ظلت تبحث عنها منذ نعومة أظافرها.. عندما اكتشفت أن المتاع المادي ليس هو السبيل إلى السعادة، عزمت على أن تبحث عنها -أي السعادة- عن طريق آخر.. نعم قررت كارولا هجر حياتها الخاوية برغم رفاهها المادي ففكرت في الابتعاد عن المجتمع الألماني وزيارة بلدان أخرى علّها تجد في معايشة سكانها ضالتها المنشودة.. غادرت كارولا ألمانيا في عام 1934 بمساعدة من أحد معارفها الذي يعمل في الحكومة، إذ كان هتلر -حاكم ألمانيا أنذاك- يحرّم على الألمان مغادرة وطنهم الأم قيد أنملة.. وبعد رحلة طويلة استمرت عدة أشهر استقر بها المقام أخيرًا في مصر.

تتحدث كارولا عن مصر وهي تجتر ذكريات الماضي قائلة: "كانت مصر أكثر هدوءًا وجمالًا من الآن.. كنت أتجول في شوارعها فتأخذني مناظر المساجد بمآذنها المرتفعة.. وفي أحد الأيام وبينما أنا أتجول في خان الخليلي سمعت صوتًا عاليًا يردد جملًا جميلة طربت لها أذناي.. اقتربت من مكان مصدر الصوت.. اندهشت حينما لاحظت أن الناس يسرعون مهرولين إلى داخل مبنى عرفت فيما بعد أنه المسجد، كما عرفت أنهم يدخلونه لأداء الصلاة بعد أن يسمعوا هذا النداء الذي عرفت أنه الأذان".

وهنا قالت كارولا وهي تصف في إعجاب حال رواد المسجد: "كنت أرى أشخاصًا مختلفين في أشكالهم ومتميزين في ملابسهم يجلسون في حلقات وهم يحيطون بشيخ مسن يجلس على كرسي عريض.. وبعد ساعات يعتلي شخص مكانًا عاليًا في المسجد يسمى "المئذنة" -كما عرفتها لاحقًا- وينادي بالعبارات التي سبق أن شدّت انتباهي حينما سمعتها من قبل.. عقب ذلك يقف أولئك الأشخاص في صفوف منتظمة ليؤدوا حركات متكرّرة عرفت لاحقًا أنها الصلاة.. اجتذبني هذا المنظر بشدة فكنت أزور ذات المكان وأقضي فيه عدة ساعات لمشاهدته..". 

واسترسلت كارولا في حديثها بعد لحظات قليلة من الصمت قالت: "لقد شدتني حركات أولئك الأشخاص، كما بهرني نظامهم في الصلاة، وسكونهم فيها.. فبدأت أعمل على تقليدهم من بعيد.. نعم كنت أشعر بالراحة والطمأنينة لهذه الصلاة على الرغم من أنني لم أكن أعرف كنهها أو أفهم ما يقال فيها.. إنه الشعور ذاته الذي ظللت أحس به كلما دخلت ذلك المكان".

تنهدت كارولا بعمق ثم أردفت قائلة: "عرفت لاحقًا أن أولئك الأشخاص يطلق عليهم المسلمون ويدينون بدين يسمى الإسلام وهو دين لم أسمع به من قبل.. سيطرت عليّ الرغبة في أن أعرف المزيد عن هذا الدّين الذي خفقت له جوارحي وأحببته بشدة دون أن أعرف عنه الكثير.. بل شعرت بنفسي وكأنني ولدت من جديد".

أردفت كارولا في حماسة عبّرت عنها حرارة الكلمات: "صممت على أن أعيش حياة المسلمين.. وقفت وجلة أمام شيخ يحيط به الناس في حلقات.. لاحظ خيوط الحيرة المتشابكة التي انتقب بها وجهي.. انتحى بي جانبًا، وكان قد فرغ لتوه من جلسته اليومية مع الناس.. ردّد أمامي كلمات، وطلب مني أن أكرّرها وراءه.. لم أنس تلك الكلمات حتى اليوم.. رددت وراءه الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن مُحمَّدًا رسول الله.. وهكذا أعلنت إسلامي وقد بلغت بي السعادة درجة يصعب وصفها بالكلمات".

أخيرًا حصلت السيدة الألمانية على ضالتها المنشودة التي ظلت تبحث عنها السنين الطوال.. لقد شعرت بالطمأنينة التي افتقدتها في مسقط رأسها.. وحتى تنسى حياتها الأولى وتنعم بالسكينة قلبًا وقالبًا غيّرت اسمها إلى سكينة وصارت تعتز بكونها مسلمة.

حينما تسترجع سكينة -كارولا سابقًا- ذكريات تلك الأيام التي عاشتها قبل أن تولد من جديد تندهش للفرق بين حياتين متناقضتين في كل شيء: حياة الناس في مجتمعها الغربي القديم التي تفتقر إلى السعادة على الرغم من توافر وسائل الراحة والمتعة، وحياة أهلها الجدد في المجتمع الشرقي المتخمة بالسعادة برغم أنف الفقر والحاجة لأبسط مقومات الحياة.. لمعرفة سر التناقض العجيب بين حياتي أهل الغرب وأهل الشرق –الذي يبدو غير منطقي ظاهريًّا- قالت سكينة: "لكي أعرف السر الكامن وراء سعادة المسلمين أخذت أقترب منهم أكثر وأكثر.. وجدت أنهم يعيشون في معية الله تعالى على الدوام.. يجتمعون عند الصلاة.. يؤدون شعائر دينهم في منتهى الرضا والاقتناع.. يتوكلون على الله تعالى في تسيير أمورهم بعد أن يؤدوا ما عليهم من واجبات..".

وعند مقارنتها لحياة أهلها الجدد -المسلمين- مع حياة أهل الغرب -أهلها القدامى– تقول سكينة في نبرات تنضح شفافية: "في الغرب طغى سلطان المادة على كل شيء حتى أصبح كل الناس -وأنا من بينهم- جسدًا يفتقر إلى الروح.. نعم كنت في حياتي السابقة –التي تخلو من كل قيمة وتفتقر إلى أبسط المعاني- أعيش جسدًا بلا روح، أما الآن فالأمر جدّ مختلف إذ أصبحت لحياتي قيمة ومعنى".

وفي خاتمة حديثها تقول سكينة في نبرة يعلوها الأسى جنبًا إلى جنب مع أمل في حلم ترجو له أن يتحقق: "في الغرب لا يعرف الناس عن الإسلام غير صورة مغلوطة مشوهة يرسمها أعداؤه.. ولكن من ينعم الله تعالى عليه برؤية الإسلام عن قرب سوف يدرك مدى عظمته المطلقة التي لا تحدها حدود، ولا بدّ من أن يعرف قدره مستقبلًا"...

سبحان الله!..

بمقياس أهل المادة شديدة الخواء هبطت بطلة قصتنا -في نظر الملايين من بني جنسها- من قمّة المجد والشهرة لتعيش مع قوم يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة..

أما بمقياس أهل الإيمان فقد سمت وارتقت بروحها إلى فلك نوراني شفيف ما يجعل هبوطها –لو مزجنا بين المقياسين- هبوطًا إلى أعلى بكل ما تعني هذه العبارة من معنى..

أيها السادة.. إنها سكينة القلب..

لذا فإن السكينة هو الاسم الذي اختارته بطلة قصتنا لنفسها بعد إسلامها..

لقد وجدت السكينة.. وجدت السعادة..

ابحثوا عنهما في المكان الصحيح..

اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.

-------------------------------

المصادر:

عبد الصمد، محمد كامل (1995)؛ الجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء؛ ثلاثة أجزاء؛ القاهرة: الدار المصرية اللبنانية للنشر.    

فارس، نايف منير (2010)؛ علماء ومشاهير أسلموا؛ الكويت: دار ابن حزم.

 


تعليقات (
0
)

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وإنما هي وجهات نظر أصحابها فقط.