عدد الزيارات: 27.1K

رحلة إلى مجمع البحرين


إعداد: الدكتور/ أحمد مُحمَّد زين المنّاوي
آخر تحديث: 02/04/2016 هـ 30-01-1437

قصص موسى عليه السلام من أعظم وأهم قصص القرآن، فهي ثريَّة بالدروس والعبر والمواقف والدلالات. وفي المشهد التالي سوف نقف معًا عند إحدى عجائب القصص القرآني، ليس في مضمونها وفحواها، فلهذا مصادر أخرى، ولكن في نظمها الرقمي الرائع، لنرى كيف تتعانق الكلمات مع الأرقام لتقدّم لنا لوحة تصويرية هي قمَّة الروعة والإبداع!

البداية.. قام موسى عليه السلام خطيبًا في بني إسرائيل، فسأله أحدهم: أي الناس أعلم؟

قال موسى عليه السلام: أنا، فعاتبه اللَّه عزّ وجلّ، إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى إليه أن عبدًا من عباده بمجْمع البحرين عنده من العلم ما لم يُحِط به، فعزم موسى عليه السلام على الرحيل إليه.

نستعد الآن لمرافقة موسى عليه السلام وفتاه وهما في طريقهما إلى مجمع البحرين، لنقف معهما على العديد من العجائب القرآنية، ليس عجائب العبد الصالح مع موسى عليه السلام وإنما عجائب الأرقام!

وكما أن القصّة مملوءة بالمواقف العجيبة، فإنها مملوءة أيضًا بالمعطيات الرقمية العجيبة!

نرحل على عجل إلى سورة الكهف لندرك موسى عليه السلام وهو يفتتح لنا القصّة بالآية رقم 60، فتأمَّل:

وَإِذْ قَالَ مُوْسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)

فلماذا افتتح موسى قصته مع العبد الصالح بالآية رقم 60؟!

للإجابة عن هذا السؤال استمع إلى حوار موسى مع الفتى حتى نهايته!

لم يعلّق الفتى على قول موسى عليه السلام!

فربما كان مشغولًا بأمر آخر يرى أنه أهم من ذلك! ولن تطول حيرتنا كثيرًا بشأن الفتى وصمته، حتى يتدخل القرآن الكريم سريعًا، ويبلغنا بأمرين في غاية الأهميّة في مسار القصّة! الأمر الأوّل هو انتهاء المرحلة الأولى من الرحلة وذلك بوصول موسى وفتاه إلى مجمع البحرين، والأمر الآخر هو أن حوتهما تسرّب إلى البحر، وعليهما أن يبحثا عن طعام بديل!

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوْتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيْلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)

عجيب أنهما لم يحطّا رحالهما عند مجمع البحرين!

والأعجب من ذلك أن موسى لم يكن يعلم أنه بلغ مجمع البحرين، برغم إصراره على أنه لا يبرح، أي سوف يظل سائرًا، حتى يصل مجمع البحرين، أو يمضي حقبًا، أي حتى إذا تطلّب الأمر أن يسير حقبًا من الزمان!

وحان وقت الغداء والقيلولة، وجاء التفكير في الحوت مصدر الطعام الوحيد، وقد صور لنا القرآن العظيم هذا المشهد في الآية التالية:

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)

ولكن أين الحوت؟ الفتى وحده كان يعلم أين هو الحوت! ولعله ظل صامتًا طوال الفترة الماضية، ولم يعلِّق على قول موسى، لأن تفكيره كان منصبًّا حول الطريقة التي تسرّب بها الحوت إلى داخل الماء وقد وصفها بأنها "عجبًا"!

الآن يمكنك أن تستمع إلى الفتى وهو يروي لك القصّة بنفسه:

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيْتُ الْحُوْتَ وَمَا أَنْسَانِيْهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيْلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)

هنا ومن آخر كلمة نطق بها الفتى (عَجَبًا) تبدأ سلسلة من العجائب!

وبهذه الكلمة فتح الفتى الباب إلى عالم من العجائب! والعجيب أن أوّل من يتعجَّب هو الفتى نفسه!

ولكن ممّ سوف يتعجَّب هذا الفتى؟!

هل هناك أمر آخر يدعو إلى التعجُّب غير الطريقة التي تسرّب بها الحوت إلى داخل البحر؟!

نعم.. سوف يتعجَّب الفتى من ردّ فعل موسى عليه السلام!

الآن استمع إلى القرآن العظيم وهو يصوِّر لك ردّ فعل موسى من ضياع الحوت:

قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)

ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ! عجيب!

والأعجب منه: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا!

ردّ فعل غير متوقع أبدًا لا إلى الذي شهد القصّة، ولا إلى الذي قرأها!

هكذا فجأة ومن دون أي مقدّمات صرف موسى عليه السلام النظر عن كل شيء .. عن الغداء.. عن القيلولة، ورجع أدراجه!

حتى قبل قليل كان الفتى وحده هو من يعلم مصير الحوت، والطريقة التي تسرَّب بها إلى داخل البحر، وما لبث الأمر أن انعكس سريعًا، وأصبح موسى عليه السلام هو وحده من يعلم لماذا هم راجعون!

 

تأمّل..

الآن نتوقَّف قليلًا لنسترجع كلمات موسى عليه السلام وفتاه حتى هذه المرحلة من القصّة.

لقد قال موسى حتى الآن 21 كلمة موجَّهة كلها إلى فتاه وجاءت على النحو الآتي:

وَإِذْ قَالَ مُوْسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِيْنَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)

قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)

لقد جاءت كلمات موسى عليه السلام إلى فتاه موزَّعة على ثلاث آيات، وهي الكلمات التي تحتها خط.

أما كلام الفتى إلى موسى فقد جاء في 19 كلمة جاءت في آية واحدة، وسوف يكتفي الفتى بهذه الكلمات طوال القصّة، ولن يضيف أي كلمة أخرى، وقد جاء مجمل كلامه في الآية:

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوْتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيْلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)

الآن تأمّل جيّدًا.. لقد قال موسى لفتاه 21 كلمة ورد عليه فتاه بـ19 كلمة، وبذلك فإن مجمل ما قاله موسى لفتاه وقاله الفتى لموسى 40 كلمة على التمام والكمال.. ولكن لماذا 40 تحديدًا؟!

بل السؤال الأهم: من هو هذا الفتى؟

تأمّل من جديد قصة هذا الفتى مع الحوت..

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)

حرف الألف تكرّر في هذه الآية 22 مرّة.

حرف اللّام تكرّر في هذه الآية 8 مرّات.

حرف الحاء تكرّر في هذه الآية مرّتين اثنتين.

حرف الواو تكرّر في هذه الآية 4 مرّات.

حرف التاء تكرّر في هذه الآية 4 مرّات.

هذه هي أحرف لفظ (الحوت) تكرّرت في آية الحوت 40 مرّة!

ولكن لماذا 40 تحديدًا؟! ومن هو هذا الفتى؟

 

هذا الفتى هو يوشع بن نون، وهو من سيدخل ببني إسرائيل بيت المقدس بعد 40 سنة من التيه، الذي كتبه اللَّه على بني إسرائيل، وبعد موت موسى وهارون عليه السلام! فهل أدركت الآن لماذا جاء كلام موسى وفتاه في 40 كلمة؟!

واقرأ إن شئت قول اللَّه تعالى في سورة المائدة:

قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً يَتِيهُوْنَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِيْنَ (26) المائدة

تأمّل عدد كلمات الآية 14 كلمة، ورقمها 26، ومجموعهما = 40 أيضًا!

فهذه هي آية التيه وقد جاءت في سورة المائدة، بينما جاءت قصة موسى والعبد الصالح في سورة الكهف، وبرغم ذلك يظل هناك ارتباط عضوي بينهما على مستوى الحرف! فتأمّل كيف جاء آخر ذكر للفتى في كلام موسى في الآية رقم 62 من سورة الكهف، وكيف جاء رقم آية التيه (26) وهو معكوس رقم آية الكهف، وكيف جاء عدد حروف آية التيه 62 حرفًا، بينما جاء أوّل حرف من أحرف كلمة "أربعين" وهو حرف الألف في ترتيب الحرف رقم 19 من بداية الآية، بعدد كلمات الفتى يوشع بن نون!

 

وتستمر رحلة العجائب..

نستمر في الرحلة مع موسى عليه السلام ويوشع بن نون.

وعند مجمع البحرين وتحديدًا على الصخرة التي تسرَّب عندها الحوت إذا برجل مسجًى بثوب، وهو الخضر عليه السلام، كما دلّت على ذلك الأحاديث الصحيحة. والآن نترك القرآن العظيم يصوِّر لنا هذا المشهد:

فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)

من الآية رقم 66 حتى الآية رقم 82 يبدأ حوار مطوَّل بين موسى والخضر.. فإلى نص الحوار:

قَالَ لَهُ مُوْسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِيْ لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيْتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيْهَا جِدَارًا يُرِيْدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيْلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَّلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِيْنَ يَعْمَلُوْنَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيْبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوْهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيْلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)

الكلمات التي تحتها خط وباللون الأسود كلام موسى عليه السلام.

والكلمات التي تحتها خط وباللون الأخضر كلام الخضر عليه السلام.

 

تأمّل هذا الحوار:

الخضر يوجِّه إلى موسى 121 كلمة، وموسى يوجِّه إلى الخضر 59 كلمة!

الآن علمنا لماذا جاءت قصّة موسى مع الخضر بعد 59 آية تحديدًا من بداية سورة الكهف؟

لقد قال موسى للخضر 59 كلمة وقال الخضر لموسى 121 كلمة، وبذلك يكون مجمل كلام موسى للخضر وكلام الخضر لموسى 180 كلمة، ويساوي 18 × 10

18 هو ترتيب سورة الكهف في المصحف.

10 هو عدد الآيات التي ورد فيها كلام موسى في القصّة!

10 هو عدد الآيات التي ورد فيها كلام الخضر في القصّة!

 

العدد 40 يتجلّى من جديد..

لقد قال موسى لفتاه 21 كلمة ورد عليه فتاه بـ19 كلمة، وبذلك فإن مجمل ما قاله موسى لفتاه وقاله الفتى لموسى 40 كلمة.

لقد قال موسى للخضر 59 كلمة وقال الفتى لموسى 19 كلمة، والفرق بين العددين يساوي 40 

لقد قال موسى لفتاه 21 كلمة وقال للخضر 59 كلمة، وبذلك فإن مجمل كلام موسى في القصّة 80 كلمة، ويساوي 40 + 40

في المرّة الأولى تعلَّق العدد 40 بدخول الفتى يوشع بن نون ببني إسرائيل بيت المقدس بعد 40 سنة من التيه!

فإلى ماذا يشير العدد 40 في المرّة الثانية؟ بكل تأكيد ليس له علاقة بالفتى هذه المرّة!

قطع موسى مسافة طويلة جدًّا، وتكبَّد عناء السفر للقاء الخضر -عليهما السلام-، وسيكون لموسى عليه السلام رحلة أخرى يتوجَّه فيها إلى طور سيناء للقاء ربه عزّ وجلّ. إذًا هذا لقاء وذلك لقاء!

وإن كنا لا نعلم على وجه اليقين كم المدَّة الزمنية التي استغرقها لقاء موسى مع الخضر، فإننا بكل تأكيد نعلم المدَّة التي استغرقها لقاء موسى عليه السلام مع ربه عزّ وجلّ وهي 40 ليلة!

تعلّم موسى عليه السلام من لقائه الخضر أمورًا غيبيّة لم يكن ليعلمها من غيره من البشر، وتلقّى موسى عليه السلام الوحي في لقائه مع ربه، ولم يكن ليتلقاه من غيره! واقرأ إن شئت قوله تعالى:

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوْسَى أَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُوْنَ (51) البقرة

العجيب أنه من أوّل حرف في كلمة (أربعين) حتى نهاية الآية 40 حرفًا تحديدًا!

 

إيقاع سُباعي عجيب!

هذه هي الآية الأولى في القصة..

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)

عدد حروفها 49 حرفًا، ويساوي 7 × 7

وهذه هي الآية الثانية في القصة..

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)

عدد حروفها 49 حرفًا، ويساوي 7 × 7

وهذه هي الآية الثالثة في القصة..

لَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)

عدد حروفها 49 حرفًا، ويساوي 7 × 7

وهذه هي الآية الرابعة في القصة..

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)

مجموع النقاط على حروف هذه الآية 49 نقطة، ويساوي 7 × 7

تأمّل هذا النظم الرقمي العجيب حتى على مستوى النقطة!

 

البداية والنهاية

انتهى كلام موسى مع نهاية الآية رقم 77، وبدأ بعدها مباشرة كلام الخضر من دون توقف، وتكلّم الخضر 82 كلمة متواصلة من دون انقطاع، وهذا العدد نفسه 82 هو رقم الآية الأخيرة التي انتهت بها القصّة!

رقم الآية التي بدأت بها القصّة 60 والتي انتهت بها القصّة 82

والفرق بينهما 22

عدد كلمات الآية التي بدأت بها القصّة 13 كلمة، وعدد كلمات الآية التي اختتمت بها 35 كلمة..

والفرق بينهما 22

 

الكلمات والحروف

ننتقل الآن إلى مستوى أعمق في قصة موسى والخضر.. فتأمّل:

عدد الكلمات التي قالها موسى 80 كلمة مجموع حروفها 300 

عدد الكلمات التي قالها الفتى 19 كلمة مجموع حروفها 82 حرفًا.

عدد الكلمات التي قالها الخضر 121 كلمة مجموع حروفها 492 حرفًا.

الفرق بين عدد الحروف التي قالها الخضر ومجموع الحروف التي قالها موسى والفتى هو 110

إلى ماذا يشير العدد 110؟

إنه عدد آيات سورة الكهف التي وردت فيها هذه القصّة!

مجموع الكلمات التي قالها موسى والفتى والخضر 220 كلمة، ويساوي 110 + 110

110 وهو عدد آيات سورة الكهف يتأكّد بأكثر من طرق!

 

اسم اللَّه محورًا للقياس

ورد اسم اللَّه في قصة موسى والخضر كلها مرّة واحدة فقط وذلك في الآية رقم 69

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)

اسم اللَّه في قصة موسى والخضر هو الكلمة رقم 107 من بداية القصّة!

اسم اللَّه الذي ورد مرّة وحيدة في قصة موسى والخضر، هو التكرار رقم 16 لاسم اللَّه من بداية سورة الكهف.

تكرّرت كلمة "قال" في قصة موسى والخضر 16 مرّة!!

فإذا أخذنا موضع اسم اللَّه وترتيبه رقم 107 من بداية القصّة محورًا للقياس نجد أن كلمة "قال" في آخر آية تضمَّنت كلام موسى هي أيضًا الكلمة رقم 107 ولكن ابتداءً من اسم اللَّه:

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيْهَا جِدَارًا يُرِيْدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)

كلمة "قال" هي الكلمة رقم 19 في آية موسى الأخيرة!

وبعد هذه الكلمة سوف يقول موسى 19 حرفًا تكون سببًا في فراقه للخضر!

وتحديدًا سوف يقول الكلمات التي تحتها خط، فتأمّل:

قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)

مباشرة بعد آخر كلام موسى الذي جاء في 19 حرفًا تحديدًا، سيرد 19 حرفًا أخرى يتقرَّر بموجبها الفراق بين موسى والخضر، فتأمّل حروف الكلمات التي تحتها خط:

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيْلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)

وبهذه الكلمات المقتضبة تقرر الفراق بين موسى والخضر -عليهما السلام-!

ولكن لن يغادر موسى؛ بل سينتظر قليلًا حتى يسمع من الخضر سردًا متواصلًا، يتضمّن الحكمة من تصرّفاته في المواقف الثلاثة التي لم يستطع موسى الصبر عليها. ولكن كم كلمة سوف يقولها الخضر لموسى؟!

آخر كلام لموسى جاء من 5 كلمات في الآية رقم 77، وعدد الكلمات التي قالها الخضر ابتداءً من الكلمة سأنبئك في الآية السابقة حتى نهاية القصّة جاء من 5 آيات، وفي 77 كلمة على وجه الدقة.

من كلمة (صابرًا) التي جاءت بعد اسم اللَّه مباشرة، حتى كلمة هذا في الآية السابقة (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) الكلمة الأولى في قرار الفراق بين موسى والخضر هي الكلمة رقم 114 تحديدًا!


لحظة الفراق

تأمّل آية الفراق جيّدًا:

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيْلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)

من كلمة "فراق" حتى نهاية القصّة 81 كلمة، وهذا هو عدد كلمات موسى في القصّة!

كلمة فراق جاءت بعد 40 كلمة من بداية كلام الخضر!

كلمة فراق جاءت قبل 80 كلمة من نهاية كلام الخضر، وهذا العدد = 40 × 2

 

نعود إلى الآية التي ورد فيها اسم اللَّه:

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِيْ لَكَ أَمْرًا (69)

هذه الآية ترتيبها رقم 2209 من بداية المصحف، وهذا العدد = 47 × 47

اسم اللَّه ورد من بداية سورة الكهف حتى هذه الآية 15 مرّة!

ولكن لماذا 47 ولماذا 15؟

47 عدد أوّلي ترتيبه في قائمة الأعداد الأوّليّة رقم 15

47 هو عدد حروف سورة الإخلاص و15 هو عدد كلماتها!

اسم اللَّه الذي ورد في قصة موسى والخضر لمرة واحدة هو التكرار الأخير لاسم اللَّه في سورة الكهف!

 

الحوت بين سَرَبًا وعَجَبًا

إن استخدام القرآن الكريم للألفاظ والكلمات في منتهى الدقة والكمال.

ورد الحديث عن الحوت في قصة موسى ويوشع بن نون في موضعين.

الموضع الأول عندما تحدّث اللَّه عزّ وجلّ عن فقدان الحوت، وتحديدًا في نهاية الآية رقم 61 قال:

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيْلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا!

لاحظ كيف وصف القرآن الكريم عمليَّة تسرّب الحوت إلى البحر (سَرَبًا)!

الموضع الثاني عندما نُقل هذا المعنى نفسه على لسان الفتى لم يستخدم كلمة (سَرَبًا)، وإنما جاء بكلمة بديلة لا أقول عنها إنها كلمة عجيبة وإنما هي العجب نفسه (عَجَبًا)، فقد جاء على لسان الفتى:

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيْتُ الْحُوْتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيْلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا!

لماذا استخدم القرآن كلمة (عَجَبًا) في هذا الموضع تحديدًا، ولم يستخدمها في الموضع الأوّل؟

لاحظ أن الأمور كانت تسير بشكل طبيعي من بداية القصّة حتى هذا الموضع تحديدًا، وبعدها مباشرة يبدأ تعجّب الفتى من ردّ فعل موسى على ضياع الحوت ومن تصرّفه أيضًا. وما أن انتهى تعجُّب الفتى من ردّ فعل موسى وتصرّفه، حتى بدأت رحلة موسى مع سلسلة من عجائب تصرّفات الخضر لم يستطع الصبر عليها، وقد بدأت بخرق السفينة وقتل الغلام وتقويم الجدار.

إذا بدأت من كلمة "عجبًا"، التي بدأت بعدها سلسلة من عجائب الخضر وموسى حتى قرار الفراق بينهما، الذي جاء عند كلمة "وبينك" في: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سوف تجدها بالتمام 169 كلمة، أي 13 × 13

كلمة عجبًا ترتيبها رقم 1014 من بداية سورة الكهف، وهذا العدد يساوي 13 ×13× 6

 

صبر!

أحد محاور القصّة عدم صبر موسى على تصرّفات الخضر.

أحرف كلمة "صبر" تكرّرت في كلام موسى 33 مرّة!

أحرف كلمة "صبر" تكرّرت في كلام الخضر والفتى 66 مرّة، وهذا العدد يساوي 33 × 2

أحرف كلمة "صبر" تكرّرت في كلام موسى والخضر والغلام 99 مرّة، وهذا العدد يساوي 33 × 3

 

الأثقل بالأثقل

تأمّل هذه المقاطع:

إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْرًا.

أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْرًا.

أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْرًا.

سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيْلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا.

ذَلِكَ تَأْوِيْلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَلَيْهِ صَبْرًا.

هذه المقاطع الخمسة هي خاتمة لخمس آيات كلها موجّهة من الخضر إلى موسى!

في الآيات الثلاث الأولى وردت كلمة "تَسْتَطِيْعَ" كاملة وفي الآية الرابعة حُذفت الياء، لأن السياق يقتضي ذلك حيث وردت هذه الآية مباشرة بعد نفاد صبر موسى، وقرار الخضر الفراق في الآية التالية:

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيْلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَّلَيْهِ صَبْرًا (78)

أما في الآية الأخيرة فقد حُذفت التاء والياء معًا لتكون الكلمة "تَسْطِع" على النحو التالي:

ذَلِكَ تَأْوِيْلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)

جاءت ضمن آخر ثلاث كلمات في القصّة وبعد أن أوضح الخضر لموسى الحكمة من تصرّفاته في المواقف الثلاثة، وقد حُذفت منها التاء والياء معًا لأن المقام ليس مقام شرح وإيضاح كما كان في المرّات الثلاث الأولى، وإنما المقام الأخير مقام مفارقة، ومقام تعجُّب من موسى عندما عرف الحكمة من أفعال الخضر -عليهما السلام-! وهنا فائدة ذكرها الإمام ابن كثير عند تفسيره لسورة الكهف، تتعلّق بسر التعبير بتستطع وبتسطع وقوله: (ذَلِكَ تَأْوِيْلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَّلَيْهِ صَبْرًا) أي: هذا تفسير ما ضقت به ذرعًا، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداءً، ولما فسّره له وبيّنه ووضّحه وأزال المشكل، قال "تسطع"، وقبل ذلك كان الإشكال قويًّا ثقيلًا، فقال سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا، فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف!

 

الأدب مع اللَّه

قبل أن نسدل الستار على هذه القصّة، نودّ أن نقتطف بعض الإشارات اللطيفة من كلام الخضر، فتأمّل:

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِيْنَ يَعْمَلُوْنَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِيْنَةٍ غَصْبًا (79)

عندما كان العمل معيبًا في ظاهره نسبه إلى نفسه لأنه غير لائق أن ينسبه إلى اللَّه عزّ وجلّ (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيْبَهَا)!

 

وتأمّل..

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِيْنَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)

وعندما كان العمل يحتمل في ظاهره أن يكون حميدًا مثل القصاص أورده بصيغة الجمع (فَخَشِينَا – فَأَرَدْنَا)!

 

وتأمّل..

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوْهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيْلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)

وعندما كان العمل يحتمل وجهًا واحدًا وحميدًا في ظاهره نسبه إلى اللَّه عزّ وجلّ (فَأَرَادَ رَبُّكَ)!

فما أعظم أدب الأنبياء والصالحين في تعاملهم مع اللَّه!

عجائب ولمحات عظيمة في قصة الخضر مع موسى لا يمكن حصرها!

--------------------------------------------------------

المصدر:

مصحف المدينة المنَّورة برواية حفص عن عاصم (وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة).

 


تعليقات (
0
)

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وإنما هي وجهات نظر أصحابها فقط.