المتدبّر لآيات اللَّه عزّ وجلّ في كونه يعلم أن كل ما فيه يسبح اللَّه، ويخضع له ويسجد له سبحانه وتعالى، وكل أجناس الكون التي نعرفها من جمادات ونباتات وحيوانات وجن وإنس وملائكة، وتلك التي لا نعرفها، لا يمكنها الخروج عن مُرادات اللَّه عزّ وجلّ كرهًا أو طوعًا بإرادتها أو من دون إرادتها. وقد رأينا في مشاهد متعددة نشرت جميعها في موقع (طريق القرآن) كيف يوظف القرآن العجيب حركة الحرف والكسرة تحديدًا لتصوير مشهد الانكسار والخضوع للَّه عزّ وجلّ، وقد رأينا كيف بدأت أوّل آية في المصحف بحرف مكسور، وانتهت آخر آية فيه بحرف مكسور أيضًا، وكيف خُتمت جميع كلمات أوّل آية في المصحف بحرف مكسور وكيف خُتمت جميع آيات آخر سورة فيه بحرف مكسور أيضًا، وكيف جاء أوّل حرف نزل من القرآن العظيم مكسورًا، وكيف جاء موضع السجود على آخر حرف في أوّل سورة نزلت من القرآن الكريم.
لا شك أنه قد شدّ انتباهك عنوان هذا المشهد: سورة تسجد على الطين!!
وقد تتساءل: هل يسجد القرآن؟! وكيف؟
وأين هو ذلك الطين الذي يسجد عليه القرآن العظيم؟
ولكنّني أعني ما أقول! سورة تسجد على الطين!!
إن كل شيء.. من الذرَّة إلى المجرَّة..
الكائنات الحيَّة أو النباتات أو الجمادات.. عالم الإنس أو الجن أو الملائكة..
جميعها تسبُّح اللَّه عزّ وجلّ وجميعها تسجد كرهًا أو طوعًا!
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِيْ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيْ الْأَرْضِ مِنْ دَآبَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُوْنَ (49) النحل
وأنت في رحاب القرآن العجيب عليك أن تتوقع كل شيء، حتى لو لم يخطر ببالك يومًا ما!
ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلّم- عن القرآن العظيم إنه (لا تنقضي عجائبه)؟!
وإن كانت قمَّة العبادة تتمثَّل في سجود كل المخلوقات في هذا الكون للَّه عزّ وجلّ كرهًا أو طوعًا، فما هو موقف سور السجدة من ذلك كله!! بل ما هو موقف القرآن نفسه من هذا السجود وهو الذي يأمرنا بالسجود لربنا وخالقنا سبحانه وتعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) النجم
لقد تعلمنا من القرآن العظيم أنه الكتاب الكامل الذي لا تجد فيه تناقضًا ولا اختلافًا. وعندما يسن القرآن مبدأ من المبادئ فإن القرآن نفسه هو أوّل ما يلتزم بذلك المبدأ، علمنا وجه ذلك الالتزام أم لم نعلمه. وعلى سبيل المثال، فعندما نهانا القرآن عن مناداة النبي -صلى الله عليه وسلّم- باسمه المجرّد، كما ينادي الناس بعضهم بعضًا، وذلك في صدر الآية 63 من سورة النور: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا)، فإن القرآن هو أوّل من التزم تمامًا بهذا المبدأ، ولذلك لم يرد في القرآن مطلقًا نداء مجرّد باسم النبي -صلى الله عليه وسلّم-! وإذا تأمّلت القرآن تجد أن اللَّه عزّ وجلّ أثنى على رسله وأنبيائه، وناداهم بقوله: (يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ)، و(يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ)، و(يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)، و(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)، و(يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى)، و(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)، و(يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، و(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)، وهكذا فقد نادى اللَّه عزّ وجلّ جميع أولي العزم من الرسل بأسمائهم، إلا النبي مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- لم يناده باسمه قط، بل ناداه: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يَا أَيُّهَا المُزَّمِّل ويَا أَيُّهَا المُدَّثِّر)!
ولذلك عندما يأمرنا القرآن بالسجود، فإنه يأتي هو نفسه بالسجود ولكن بهيئة خاصة به ليس بالضرورة أن نفقهها، ولكننا نؤمن بها. وكما يقول اللَّه عز وجل في الآية 18 من سورة الحج: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِيْ السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِيْ الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُوْمُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ)، فإن لكل فئة من هذه المخلوقات التي ورد ذكرها في هذه الآية، وجميع مخلوقات اللَّه عز وجلّ من دون استثناء، تسجد لخالقها سبحانه وتعالى، ولكن بهيئة مختلفة خاصة بها. فعلى سبيل المثال فإن الشمس والقمر والنجوم تسبح اللَّه عز وجلّ في أفلاكها وتسجد لخالقها بكيفية تختلف عن تسبيحنا وعن سجودنا نحن معشر البشر.
هذا موضوع متشعّب لا أريد أن أبحر فيه من هذا المرفأ المزدحم، ولكن كل ما أود أن أشير إليه هو أن الأرقام المستخدمة في القرآن ليست خرساء بكماء، بل لها دلالتها ولغتها الواضحة، وهي تتفاعل وتتناغم مع المعنى المراد في أدق تفاصيله وبشكل واضح وجلي. فعندما تكون هناك سجدة تلاوة، فإن الأرقام جميعها تتهيأ وتتفاعل لترسم منحنى تكراريًّا ساجدًا في الموقع المحدد للسجود، لا تتأخر عنه، ولا تتقدَّم حرفًا واحدًا!
وحتى لا ينتابك أدنى شكّ فيما سوف أعرضه أمامك من معطيات رقمية واضحة لا تقبل الجدل، فيما يلي سورة السجدة من بدايتها حتى موضع السجود في نهاية الآية رقم 15:
الم (1) تَنْزِيْلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيْهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ (2) أَمْ يَقُوْلُوْنَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيْرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُوْنَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُوْنِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيْعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُوْنَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُوْنَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيْزُ الرَّحِيْمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِيْنٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِيْنٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيْهِ مِنْ رُوْحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيْلًا مَا تَشْكُرُوْنَ (9) وَقَالُوْا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيْدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُوْنَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُوْنَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُوْنَ نَاكِسُوْ رُؤُوْسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوْقِنُوْنَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ (13) فَذُوْقُوْا بِمَا نَسِيْتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيْنَاكُمْ وَذُوْقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِيْنَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُوْنَ (15)
الآن هذه هي سورة السجدة من بدايتها حتى موضع سجودها ماثلة أمامك، يمكنك أن تتحقَّق بسهولة من كل ما سوف نعرضه من حقائق رقميّة مبسّطة جدًّا.
في البدء تملتتأمّل الآية الآية الأخيرة وهي الآية التي في نهايتها موضع السجود.
الآية رقمها 15، وعدد كلماتها 15، وعدد الآيات التي جاءت بعدها حتى نهاية السورة 15 آية أيضًا!
مواضع السجود في القرآن الكريم كلّه 15 موضعًا!
الآن سوف نقوم بعملية إحصائية بسيطة جدًّا لحروف سورة السجدة، من بدايتها حتى موضع السجود فيها، وهذه العملية لا تحتاج إلى أي مهارة، إذ يمكنك أن تستخدم أصابع يدك في العدّ! ماذا سنفعل؟
سوف نتابع حروف السورة حرفًا حرفًا، فنجد أن أوّل حرف ورد هو حرف الألف، وتكرّر من بداية السورة حتى موضع السجود 131 مرّة، يليه حرف اللَّام وتكرّر 87 مرّة، ثم حرف الميم وتكرّر 74 مرّة، ثم حرف التاء وتكرّر 23 مرّة، ثم النون وتكرّر 68 مرّة.. وهكذا نتابع إحصاء تكرار الحروف حرفًا حرفًا، وبحسب أسبقية ذكرها، الأوّل ثم الذي يليه وهكذا من بداية السورة حتى موضع السجود في نهاية الآية رقم 15.
إليك النتائج..
من بداية سورة السجدة حتى موضع السجود في نهاية الآية رقم 15 وردت جميع الحروف الهجائية تباعًا، باستثناء حرف الظاء، الذي لم يرد مطلقًا من بداية السورة حتى موضع السجود.
الجدول الآتي يبيِّن خلاصة ما يمكن أن تتوصّل إليه:
الحروف الهجائية مرتَّبة حسب أسبقية ذكرها |
التكرار |
أ |
131 |
ل |
87 |
م |
74 |
ت |
23 |
ن |
68 |
ز |
3 |
ي |
42 |
ك |
24 |
ب |
28 |
ر |
34 |
ف |
17 |
هـ |
29 |
ع |
20 |
ق |
19 |
و |
57 |
ح |
8 |
ذ |
16 |
د |
15 |
خ |
7 |
س |
21 |
ض |
4 |
ث |
5 |
ش |
6 |
ج |
11 |
غ |
1 |
ط |
1 |
ص |
3 |
في المرحلة التالية سوف نُدخل هذا الجدول التكراري إلى صحيفة إكسل في الحاسب الآلي، ونطلب منه أن يرسم لنا المدرج التكراري الذي يبيِّن حالة تكرار هذه الحروف!
تأمّل كيف جاء المنحنى في شكله ليعكس حالة سجود حقيقية!!
ولكن لماذا هذا الشكل العجيب للمدرَج؟ ولماذا لا يسجد مستويا؟!
إنَّ هذا الشكل يتحدّث بوضوح.. تأمّل هذا المنحنى جيّدًا!
أكثر الحروف تكرارًا هو حرف الألف، وهو يرمز إلى حالة الوقوف!
وآخر حرف ورد قبل موضع السجود هو حرف الصاد ورد ثلاث مرّات في ثلاث كلمات: الْأَبْصَارَ، أَبْصَرْنَا، صَالِحًا! وأقل تكرارًا منه هو الحرف السابق له مباشرة.. حرف الطاء، الذي تكرّر مرّة واحدة فقط من بداية السورة حتى موضع سجودها، وهذا الحرف هو الأقرب إلى المحور الأفقي!
ولذلك فإن هذا المنحنى يسجد على حرف الطاء!
ارجع إلى المقطع لتتبيَّن أين ورد حرف الطاء اليتيم، ستجده ورد في بداية الكلمة الأخيرة (طين) من الآية:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِيْنٍ (7) السجدة
تأمّل جيّدًا رقم آية الطين وما هي علاقته بالسجود!!
الآية رقمها 7، والإنسان يسجد على 7 أعظم.
تأمّل..
إذا بدأت عدّ حروف الآية حرفًا حرفًا سوف تجد أن حرف الطاء في الآية ترتيبه رقم 34 .. عجيب!
34 هو عدد السجدات المفروضة على الإنسان في اليوم واللّيلة!
ولكن الأعجب من ذلك لم أعرضه عليك بعد!
تتبَّع كلمات القرآن الكريم التي تبدأ بحرف الطاء من بداية المصحف..
كم تتوقع أن يكون ترتيب كلمة طين في نهاية الآية؟!
الَّذِيْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِيْنٍ (7) السجدة
كلمة (طين) في هذه الآية ترتيبها رقم 114 بين الكلمات التي تبدأ بحرف الطاء من بداية المصحف!
تمامًا بعدد سور القرآن الكريم!
إذًا سورة السجدة كلها تسجد في موضع السجود في نهاية الآية 15 وعلى الطين!!
ولا تنسَ أن 15 هو عدد سجدات التلاوة في المصحف!
تذكّر..
رقم آية السجود نفسه يوضّح عدد سجدات التلاوة في القرآن الكريم!!
ويتجلّى الرقم 7 من طريق آخر وهو أن كلمة طين ترتيبها من بداية السورة رقم 84، وهذا العدد = 7 × 12
وعن طريق ثالث وهو أن كلمة طين ترتيبها من بداية المصحف رقم 53711، وهذا العدد = 7 × 7673
بل الأعجب من ذلك أن كلمة طين نفسها ترتيبها من نهاية سورة السجدة رقم 289، وهذا العدد = 17 × 17
17 عدد أوّليّ ترتيبه في قائمة الأعداد الأوّليّة رقم 7
17 يماثل أيضًا عدد الركعات المفروضة في اليوم واللَّيلة!
إذا تتبّعنا المواضع الثلاثة التي ورد فيها حرف الصاد، آخر الحروف في المدرَّج التكراري، نجده ورد في كلمة الْأَبْصَارَ التي جاءت مقترنة بكلمة السَّمْعَ في الآية التاسعة، وفي كلمات أَبْصَرْنَا ونَعْمَلْ صَالِحًا في الآية رقم 12. أما الأبصار فهي في الرأس موضع السجود، أما أفضل الأعمال الصالحة فهي (الصلاة على وقتها).. وأفضل ما في الصلاة السجود!
إذا عرف السبب زاد العجب!
لماذا هذا الشكل للمدرج؟
عجيب.. لماذا لا يسجد مستويًا؟
إن هذا الشكل معجز في حدّ ذاته!! كيف؟
لا أقول لك كما يقول المثل العربي: إذا عرف السبب بطل العجب! ولكن أقول لك إذا عرف السبب زاد العجب!
إذا تأمّلنا المدرج التكراري نجده في نهاية الربع الأوّل نزل نزولًا حادًّا في موضعين ارتفع بينهما ارتفاعًا حادًّا.. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا نزل المنحنى هذا النزول الحاد في هذا الموضع تحديدًا؟
بالتدقيق في المنحنى التكراري تجده نزل عند حرف التاء وحرف الزاي تحديدًا، وهذان الحرفان أوّل ظهور لهما كان في كلمة تنزيل في بداية الآية الثانية: تَنْزِيْلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيْهِ مِنْ رَّبِّ الْعَالَمِيْنَ (2)، وهنا فإن المنحنى التكراري يتفاعل مع المعنى بشكل واضح، فعندما جاء الحديث عن تنزيل الكتاب نزل المنحنى نفسه ليرسم لوحة تصويرية رائعة لعملية التنزيل نفسها، ومزيدًا من الإتقان والدقة في حبْك هذه الصورة، تجد أن حرف التاء، أوّل حروف كلمة تنزيل، تكرّر قبل موضع السجود 23 مرّة تحديدًا، وهو عدد مماثل تمامًا لعدد أعوام الوحي التي تنزَّل خلالها القرآن الكريم، بل وتكرّر بعد موضع السجود حتى نهاية السورة 23 مرّة أيضًا!! بل الأعجب من ذلك كلّه أن أوّل كسرة في السورة جاءت تمامًا في منتصف كلمة "تَنزِيلُ" لتعزز المعنى المراد.
ولكن لماذا ارتفع المنحنى التكراري بشكل حاد بين حرفي التاء والزاي؟ لقد جاء الارتفاع عند حرف النون تحديدًا، وهذا الحرف هو الحرف الذي ختمت به آية السجدة كلّها، وأن السجود يتحقَّق عند هذا الحرف تحديدًا، وبذلك جاء المنحنى مرتفعًا في هذا الوضع ليُظهر رفعة اللَّه عزّ وجلّ للساجدين، تحقيقًا لما ورد في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلّم-: (ما من عبد يسجد للَّه سجدة إلا رفعه اللَّه عزّ وجلّ بها درجة)!
الأعجب من ذلك..
لاحظ أن أوّل أحرف كلمة "تنزيل" وهو حرف التاء تكرّر 23 مرّة، بعدد الأعوام التي تنزل خلالها القرآن الكريم، وجاء بعده مباشرة حرف النون ليرتفع بالمنحنى 68 درجة، وهذا العدد يماثل تمامًا عدد تكرار كلمة "قرآن" في القرآن الكريم.
كأنَّ الأرقام تتحدّث!
لاحظ المقطع: "تَنزِيلُ الْكِتَابِ"، تجد الحرف الأوّل منه وهو حرف التاء تكرّر بعدد أعوام الوحي، أي بعدد أعوام التنزيل، والحرف الثاني منه وهو حرف النون تكرّر بعدد تكرار كلمة "قرآن" في القرآن الكريم، ولا شكّ في أن الكتاب المشار إليه هنا مقصود به القرآن نفسه، بل إذا تأمّلت كلمة "قرآن" نفسها تجدها تنتهي بحرف النون، وإذا تأمّلت آخر حرف نزل من القرآن الكريم تجده حرف النون أيضًا، وهذا الحرف هو نفسه الذي ختمت به آية السجدة. وهكذا تتفاعل الأرقام لتعكس المعنى نفسه المقصود من خلال الحروف!!
هناك في المنحنى التكراري حالة أخرى شاذة يمثِّلها ارتفاع المنحنى بشكل حاد في بداية الثلث الأخير منه، وعندما تتأمّل موقع هذا الارتفاع تجده عند حرف الواو الذي ظهر للمرة الأولى في "أم يقولون افتراه" في الآية الثالثة، أي يقولون: إنه مفترى من عند مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم-، وليس منزّلًا من عند اللَّه عزّ وجلّ، وبذلك لا بدّ للمنحنى التكراري أن يأخذ اتجاهًا معاكسًا لاتجاه النزول.. وهو الارتفاع والصعود؛ بل يتضمّن ارتفاع المنحنى عند حرف الواو معنى آخر، وهو أن هذا الحرف ورد للمرة الأخيرة في كلمة "يستكبرون" التي عندها موضع السجود، وبذلك جاء ارتفاع المنحنى ليرسم لوحة تصويرية بديعة لحالة استعلاء واستكبار الذين يترفّعون عن السجود للَّه عزّ وجلّ.
سبحان اللَّه.. تأمّل كيف يصوِّر الحرف الواحد أكثر من مشهد في آن واحد.. وبرغم ذلك يحتفظ بتوازنه داخل الآية، وداخل السورة وعلى نطاق القرآن كلّه، وفي خضم ذلك يظل المعنى اللّغوي محكمًا وبليغًا وفصيحًا ومعجزًا من جميع جوانبه! سبحانك ربي ما أعظمك، وما أعظم كتابك، وما أعجب كلامك الذي أنزلته على أعظم عبادك، مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- نبيّ النبيين وخاتمهم، ونبراس المتقين وإمامهم، وصفوة الخلق أجمعين وسيدهم.
غياب الظاء!
أشرنا في بداية المشهد إلى أن جميع الحروف الهجائية العربية وردت من بداية سورة السجدة حتى موضع سجودها باستثناء حرف واحد فقط غاب عن هذا المقطع وهو حرف الظاء!
هل سألت نفسك لم غاب حرف الظاء دون سواه من الحروف الهجائية العربية؟
وهل هناك علَّة في أن يرد هذا الحرف؟! إن مقتضيات جمال اللَّوحة التصويرية التي رأيناها بشأن سورة السجدة، وهي ساجدة على الطين، يقتضي غياب حرف الظاء نهائيًّا من المشهد وإلا أفسد كل شيء!
أتعلم لماذا؟! لأن حرف الظاء هو الحرف رقم 17 في قائمة الحروف الهجائية، وهو بترتيبه هذا يرمز إلى عدد الركعات المفروضة في اليوم واللَّيلة، وأن هذه اللوحة لا يمكن أن تتضمّن حالتي السجود والركوع في آن واحد، كما لا يمكن للإنسان أن يكون راكعًا وساجدًا في آن واحد، ولذلك وجب حجب الحرف الذي ترتيبه رقم 17 حتى لا يحدث تشويه في ملامح هذه اللوحة التصويرية الرائعة!
سجود السُّور!
أتعلم أن سورة السجدة ليست استثناءً!
بل إنك إذا قمت برسم منحنيات تكرارية لجميع سور القرآن الكريم التي تتضمَّن سجدات تلاوة، بل جميع الآيات والموضوعات التي تتحدّث عن السجود أو الخضوع أو الانكسار للَّه عزّ وجلّ، فإن ذلك المنحنى إذا رسمته لتكرار الحروف من بداية السورة أو الآية حتى موضع السجود، وبحسب أسبقية ذكرها، يتَّخذ المنحنى هيئة ساجدة وتختلف هذه الهيئة من موضع إلى آخر بحسب مقتضيات المعنى الذي تتضمَّنه السورة أو الآية! ويمكنك أن تتحقَّق من ذلك بنفسك باتباع الطريقة نفسها التي اتَّبعناها في سورة السجدة.
وهكذا.. يتجلَّى القرآن العظيم شامخًا وفي أوج عظمته، فلا يكون بناؤه الإحصائي البديع خصمًا من رصيد بلاغته وفصاحته، ولا يكون إحكامه اللغوي الدقيق عبئًا على نظامه الإحصائي العجيب، ولا تجد تناقضًا ولا اختلالًا ولا اختلافًا بين بنائه الرقمي وبنائه اللّغوي، بل كلٌ يعزّز الآخر ويصدِّقه، فالأرقام تنطق تمامًا كما تنطق الحروف! سبحانك ربي ما أعظمك وما أعظم كلامك وأعجبه!
-----------------------------------------------------------------------------
المصدر:
مصحف المدينة المنَّورة برواية حفص عن عاصم (وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة).