نوع من البشر مثير للانتباه..
يعيش المرء العمر كلّه على غير الإسلام..
ثم يكتب الله له مسك الختام.. يختم حياته مسلمًا موحدًا..
تُرى.. هل عاش العمر مسلمًا دون أن يدري؟!
هل كان قلبه ينبض بالإيمان الفطري.. ولم يكن ينقصه سوى شريعة الإسلام؟!
هل يمكن للقلب أن يعلم.. بينما العقل يجهل؟! ثم يُثمر صدق القلب علمًا للعقل؟!
فينطق الشهادتين ويدخل في الدين ويطبق الشريعة فيكتمل الإنسان.. قلبًا وعقلًا؟!
يكافئ الله قلبه الطاهر الذي عاش يهفو إلى الله.. فيختم له بختام المسك؟!
أسئلة عجيبة.. وحده الله من يعلم إجابتها..
ما نعلمه حقًّا.. أنهم موجودون بيننا..
منهم بطلة قصتنا.. كانت تتربع على قمة الثراء.. تزوجت من فقير معدم ولكنه ذو خلق فخسرت أهلها وحرمت من حياة الرفاه.. أنجبت بنتها الوحيدة وهي في الثامنة عشرة من عمرها.. عملت مربية لأبناء اليهود كما عاشرت المسلمين.. شاهدت الفرق بين الإسلام واليهودية فانبهرت بالإسلام وأعجبت بمعاملة المسلمين لأبنائهم مقارنة بنظرائهم من اليهود والنصارى، كما أعجبت بالعلاقات التي تربط بينهم.. توفي زوجها وتزوجت ابنتها الوحيدة وعاشت هي بعيدة عنها.. عندما دخلت في العقد التاسع من عمرها بدا عليها الوهن.. عندما شكت حالها لابنتها الوحيدة طلبت منها الأخيرة أن تدخلها دارًا للعجزة والمسنين فرفضت الفكرة.. طلبت منها جارتها المغربية المسلمة أن تستضيفها في بيتها.. وافقت على مضض.. انبهرت بالمعاملة الطيبة التي تلقتها من الأسرة المغربية برغم أنها ليست مسلمة.. سافرت مرّة مع مضيفتها إلى المغرب العربي. انبهرت باحترام الأبناء للآباء والأجداد الذي أمرهم به دينهم الإسلامي.. تذكرت طلب ابنتها بإدخالها دارًا للعجزة والمسنين، اغرورقت عيناها بالدموع حبًّا في الإسلام ثم اعتنقته عن قناعة لا تتزعزع.. إنها البلجيكية جوسيت ماري ندعوكم لتعرف قصة إسلامها.
ولدت المعمرة جوسيت ماري في عام 1918 لعائلة فرنسية برجوازية مسيحية.. ورثت الثراء أبًا عن جد لكنها فقدته عندما قررت الزواج بشاب بلجيكي بهرها بأخلاقه الطيبة وخصاله الكريمة.. رفضت أسرتها الزوج المقترح بسبب فقره.. تحدت جوسيت أسرتها وتزوجت الشاب البلجيكي ثم سافرت معه إلى العاصمة بروكسل لترسم مشهد الخاتمة لآخر عهدها بالحياة الرغدة إذ عاشت بعدها حياة صعبة يغلب عليها طابع الشقاء.. أنجبت ابنتها الوحيدة ولم يتجاوز عمرها 18 عامًا.. مقدم الحفيدة الصغيرة لم يشفع لها أمام أهلها الذين قطعوا عنها المال والوصال.
اجتهدت جوسيت بجد كي تربي ابنتها تربية كريمة.. عملت مربية ومعلمة لأبناء اليهود، تعلمهم اللغة الفرنسية.. كما تعاملت مع الكثير من المسلمين الأمر الذي أتاح لها أن تقارن بين الإسلام واليهودية؛ فمن خلال ملاحظاتها لحياة كل من المسلمين واليهود توصلت إلى البون الشاسع الذي يوجد بين الدينين الإسلامي واليهودي إذ وجدت في الأول ثباتًا لا يعرف التبدُّل بعكس الثاني الذي كل يوم هو في حالة من التغيُّر.. من جهة ثانية انبهرت بالتعامل الراقي للمسلمين مع أبنائهم وقارنته بتعامل نظرائهم من أصحاب الديانات الأخرى، وهو أمر لاحظت أنه ينطبق على التعامل مع الجيران فتوصلت إلى حقيقة جلية مفادها أن الإسلام دين عظيم وإن احتفظت بهذا الرأي في داخلها لعدة عقود.
ظلت جوسيت ماري تقدّر الدين الإسلامي وتتفاعل معه لدرجة أنها كانت تشتري اللحم والدجاج من محلات المسلمين لأنه مذبوح على الطريقة الإسلامية وبالتالي تخلو أنسجته من الدم، وهي تفعل ذلك لتأكدها من أن لحوم الحيوانات المذبوحة على الطريقة الإسلامية هي الأنظف والأطهر والأكثر محافظة على صحة الإنسان.. وتقول جوسيت إنها لم تفكر يومًا في اعتناق الإسلام برغم تعاملها مع المسلمين منذ سنوات طويلة.. وتضيف بأنها ظلت تتعامل معهم بكل احترام وتقدير بل تقدر بشدة طقوسهم الدينية، لدرجة أنها كانت تتجنب زيارتهم في شهر رمضان لأنها تعلم أن أخلاقهم الإسلامية تحتّم عليهم أن يقدموا لها واجب الضيافة بينما هي لا تحب أن تخدش فرائضهم الدينية وهم صائمون.
وتعبر جوسيت عن إعجابها بالتعامل الراقي للمسلمين مع الآخرين ولو كانوا ينتمون لديانات أخرى؛ فهم كما تقول كانوا يلقون عليها التحية والسلام كلما رأوها وكانوا يعينونها في شؤون حياتها برغم أنها كانت نصرانية آنذاك.
بمرور السنين يحدث انقلاب في حياة جوسيت إذ توفي زوجها وتزوجت ابنتها فوجدت نفسها وحيدة إلا من جيرانها المسلمين.. موقف مخزٍ من ابنتها زاد من إعجابها بالمسلمين.. لقد طلبت منها أن تنتقل إلى دار العجزة والمسنين لتقضي ما تبقى من عمرها هناك.. تساءلت بمرارة: "لماذا لا يودع أبناء المسلمين آباءهم وأمهاتهم في دار العجزة والمسنين؟ لماذا يقيمون معهم ويعتنون بهم كما اعتنوا هم بهم صغارًا؟".
بمرور السنين والعقود تقدمت جوسيت في العمر وازدادت في دواخلها مرارة الوحدة القاتلة فابنتها الوحيدة بالكاد تسأل عنها، بينما مقاطعة أهلها الأثرياء لها لم تتوقف برغم رحيل زوجها البلجيكي إلى الدار الآخرة.. إلى جانب الوحدة المميتة بدأت جوسيت تدفع ضريبة تقدم العمر إذ لم تعد قادرة على خدمة نفسها إلا بشق الأنفس.. في أحد الأيام لاحظت جارتها المغربية المسلمة فاطمة تدهور حالتها فاستشارت زوجها كي يستضيفاها معهما بمنزلهما، فرحب الزوج بذلك.. وهنا تقول جوسيت بصوت خفيض هامس: "أدهشني كثيرًا عرض استضافتي من قبل جارتي المغربية المسلمة، وقبلت وأنا في حرج وتوجس، ولكني وجدت أخلاق المسلمين التي كنت ألاحظها من الخارج تعم هذا البيت، ففي منزل هذه العائلة شعرت بالاهتمام بي كإنسانة أدت دورها في الحياة.. ظلت السيدة المغربية ترعاني هي وزوجها وأبناؤها الأربعة دون أي مقابل مادي.. فقط من باب المحبة والشفقة لسني ورحمة الصغير بالكبير، وهذا ما حببني أكثر في الإسلام".
وقدّر لجوسيت أن ذهبت في زيارة للمغرب مع مضيفتها فاطمة المغربية وذكرت أن مشهدًا مؤثرًا أبكاها بشدة.. لقد رأت عائلة ممتدة تتكون من الجد والجدة والأب والأبناء والأحفاد يعيش أفرادها في ألفة وانسجام.. حيث الاحترام والتوقير للكبير يصل درجة تقبيل الرأس واليدين.. قالت بطلة قصتنا إن هذا المشهد أبكاها لأنه عكس لها مدى جمال الإسلام فاعتنقته من دون تردد.. نطقت بالشهادتين في عام 2010 برغم أن عمرها تجاوز التسعين بعامين، وأطلقت على نفسها اسم "نور الإسلام".. حينها فقط راودها إحساس صادق بأنها ولدت من جديد.. لكن ما أقضّ مضجعها من ناحية وجعلها تشعر بمدى عظمة الإسلام من الناحية الأخرى موقف ابنتها الوحيدة التي تبلغ 74 عامًا من عمرها عندما علمت باعتناقها الإسلام.. فقد تبرأت منها، بل ادعت أن أمها أصيبت بالخرف وهنا ردت جوسيت على وصف ابنتها لها بالخرف بقولها:
"كلامها هذا خالٍ من الصحة، فأنا أتذكر أحداثًا حدثت منذ عام 1930 وأستطيع أن أسردها، لكن أسامحها وأدعو الله أن يلهمها الهداية لاعتناق الإسلام مثلما ألهمني وأنا في هذا العمر الكبير".
نختتم هذه القصة المؤثرة بالإشارة إلى أن "نور الإسلام" أدت فريضة الحج ورفضت أن تستعين بالكرسي المتحرك، فقد أصرت على الطواف والسعي بين الصفا والمروى مشيًا على قدميها، فهي تفضل أداء مناسك الحج كلها كما كان يفعلها رسول الله –صلى الله عليه وسلّم- وهي ترى أن ولادتها الحقيقية كانت في عام 2010، أي حينما اعتنقت الإسلام بعد عمر تجاوز التسعين ندمت على أنها لم تعشه كله في حمى الإسلام والمسلمين..
المهم.. أنها ولدت من جديد ولا يهم عمرها المديد..
حصلت على شهادة الميلاد.. شهادة الإسلام.. نطقت الشهادتين..
وهنيئًا لها.. فالإسلام يجُبّ ما قبله.. يمحوه.. يبدل الله سيئاتهم حسنات..
"فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"..
فما أكرمك يا الله..
تسعون عامًا عاشتها في الضلال.. وفي الرمق الأخير من حياتها هديتها إليك..
هديتها إلى الإسلام فولدت من جديد..
ثم دعوتها إلى بيتك الحرام لأداء فريضة الحج فرجعت كيوم ولدتها أمها..
إنه ميلاد بعد ميلاد.. الميلاد بالإسلام.. والميلاد بالحج..
اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.
--------------------
المصدر:
جمعية النجاة الخيرية؛ سلسلة قصص مشاهير المهتدين (36): المعمّرة البلجيكية ماري جوسيت.