عدد الزيارات: 5.5K

رسائل النور


إعداد: الدكتور/ أحمد محمد زين المنّاوي
آخر تحديث: 08/12/2019 هـ 10-04-1441

عبر حياة الإنسان..

هناك العديد من المحطات المفصلية والركائز الأساسية..

يلتقي فيها الإنسان مع نفسه..

يقف مع ضميره وفطرته..

يتلمس الإجابات الشافية عن الأسئلة المضنية..

يبحث ويبحث.. ومع صدق البحث يبزغ النور في قلبه..

يضع الله في طريقه أي دليل.. فالأدلة كلها من صنع الله..

فطالما اشرأبت النفس ترنو إلى خالقها بصدق.. سيهديها الله إليه..

"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"..

إنه وعد الله الذي لا يخلف الوعد.. سبحانه..

بطلة قصتنا.. من هؤلاء الباحثين عن الله.. ولدت ونشأت في كنف أسرة كاثوليكية بريطانية عريقة.. واظبت منذ طفولتها على زيارة الكنيسة في أيام الأحد، بل تم إرسالها إلى دير للراهبات وعمرها لم يتجاوز الثامنة.. شعرت بنفور من ديانتها التي وجدتها لا تكنّ احترامًا للعقل.. تنقّلت بين العديد من البلدان وتعرفت إلى العديد من الديانات بيد أن لا شيء منها أشبع رغبتها حتى وجدت الحقيقة التي تبحث عنها في ترجمة إنجليزية لكتاب "رسائل النور" لبديع الزمان سعيد النورسي، فانقلبت حياتها رأسًا على عقب، بل الأصح تعدلت عقبًا على رأس، حيث كانت تلك الترجمة بمنزلة النافذة المضيئة التي عبرت عبرها من دياجير الظلمات إلى رحاب النور، فاعتنقت الإسلام.. إنها البريطانية ماري ويلز تلميذة النورسي وبطلة هذه القصة.

منذ نعومة أظفارها لم تجد ماري وإخوتها الخمسة في بيت العائلة الفسيح سوى جو ديني سطحي يهتم بالشكل ويفتقر إلى العمق كالدعاء قبل تناول وجبات الطعام وعقبه أو التردد على الكنيسة أيام الأحد لذلك بدأت منذ صغرها تشعر بالنفور من النصرانية.. ألهمتها فطرتها السوية بأن النصرانية التي تربت عليها كتقليد أعمى ليست سوى مسخ محرف من صنع البشر.. ولكنها أقبلت على النصرانية في طفولتها تماشيًا مع تقاليد أسرتها التي أدخلتها المدرسة في دير كاثوليكي وعمرها ثماني سنوات، وإن ظل داخلها يتمرد عليها بشدة.

وخلال الفترة التي قضتها تدرس بدير الراهبات أصبحت كثيرة الارتياب، وكانت تبحث في قلق عن الحقيقة التي لم تجدها في الديانة النصرانية.. وحز في نفسها ما كانت تعانيه من غياب العقيدة المتماسكة التي تستطيع أن تجابه بها العالم، إذ كانت التراتيل التي يرددونها في الكنيسة تفتقر إلى العمق وينتهي مفعولها في دواخلهم حالما يغادرون الكنيسة.

وعقب مرور تسع سنوات قضتها في مدرسة الدير وجدت نفسها أكثر نفورًا من النصرانية على الرغم من مشاركاتها الحماسية الفاعلة في أداء الطقوس والتراتيل الدينية.. فطفح تمردها الداخلي إلى الخارج وبدأت تبحث عن البديل هربًا من الدير.. فانغمست في عالم الملذات المادية المهلكة دون أن تتنازل عن رغبتها في البحث عن البديل.

عندما تركت ماري مدرسة الدير وعمرها سبعة عشر عامًا، كانت بريطانيا في ذلك الحين، وكغيرها من الدول الأوروبية، تشهد تمردًا عارمًا من قبل الشباب على تقاليد مجتمعهم، حيث وجدوا تناقضًا صارخًا في تلك التقاليد بين الشعارات البراقة المرفوعة والواقع المزري المرير مضافًا إلى ذلك خواء روحي مريع يسود بضراوة في مجتمع يبيح كل ما يهدم الروحانيات في النفوس.. انغمس الشباب الأوروبي آنذاك في موجة من المجون واللهو وموسيقى الروك والموديلات الجديدة من الأزياء والاحتجاج السلبي على أوضاع لا تتسق مع ميولهم ورغباتهم السطحية.. وساعدت السلطات الأوروبية الشباب في اتجاهاتهم الجديدة وبحثهم عن مناهج حياتية بديلة كمخدر يشغلهم عن معارضة الأنظمة الحاكمة.

سبحت ماري ويلدز خلال العقدين السادس والسابع من القرن العشرين مع ذلك التيار السطحي الجارف دون أن تفقد وعيها كما حدث للكثيرين من أترابها، إذ ظلت تبحث بإلحاح عن علاج ناجع للخواء الروحي الذي كان يمور بداخلها، وملاذ أمين يريحها من حالة القلق التي كانت تعيشها.. وللحصول على بغيتها التي لم تجدها في الأماكن التي ارتادتها مع الشباب المتمردين على تقاليد المجتمع المشوهة، اشتغلت في أعمال متنوعة، وزارت العديد من الأقطار. 

احتكت بنماذج مختلفة من البشر ينتمون إلى مختلف الفئات الدينية والسياسية في العديد من الأقطار، وحاولت مجاراتهم في أنشطتهم وطقوسهم بيد أن عقلها رفض عقائدهم ولم يتقبل أفكارهم.. أفادتها تلك الزيارات وجعلتها تنظر إلى موسيقى الروك والأزياء التي انشغل بها أندادها من الشباب كممارسات مبتذلة وتافهة.. فبحثت في كثير من الديانات عن أجوبة جوهرية عن أسئلة كانت تشغل بالها إلا أنها أخفقت في الوصول إلى ضالتها المنشودة.

مع مرور الأيام والشهور تدهورت الحالة النفسية لبطلة قصتنا حتى وصلت درجة من الاستياء أصبحت معها تكره حتى الأشياء التي كانت تحبها؛ كالمزارع والأشجار والسماء.. إذ بدت أمامها تخلو من أي معنى بينما كان رأسها يحتشد بكم مهول من الأسئلة الملحة يدور حول الكون وظواهره وحول من يقف وراء نمو الكائنات وموتها بمختلف أنواعها.. ما كان يزيد من درجة استيائها الغفلة التي تغطي عقول زملائها بالجامعة وقلوبهم، حيث لاحظت كم هم غافلون عن حقيقة زيف المجتمع الذي غرق أفراده في أسن المادة حتى النخاع.

وهكذا ظلت ماري ويلدز تعاني صراعًا نفسيًّا رهيبًا عندما لم تجد في الأديان والمعتقدات المنتشرة في العالم ما يروي ظمأها ويريح عقلها الباحث عن الحقيقة.. وبرغم اطّلاعها في الجامعة على مؤلفات كتبت عن الإسلام وسماعها محاضرات تتحدث عنه، فإنها لم تتأثر بها، لأن من كتبوا تلك المؤلفات أو ألقوا تلك المحاضرات لم يكونوا سوى مستشرقين نقلوا صورة مشوهة عن الإسلام.. ومن بين ركام الإحباط وعلى حين غفلة منها جاءها الفرج عندما اطلعت ولأوّل مرّة على ترجمة إنجليزية لكتاب "رسائل النور" لمؤلفه الداعية الإسلامي التركي بديع الزمان سعيد النورسي.

في البدء لم تستطع فهم تلك الترجمة ولكنها شعرت براحة نفسية وهي تقرؤها، فاستعانت على ذلك بزملائها في الجامعة من المسلمين.. شرحوا لها ترجمة "رسائل النور" في صورة مبسطة، فأحبتها ووجدت فيها ما كانت تبحث عنه فاعتنقت الإسلام، وهجرت حياتها الحالكة المدلهمة التي تمور بالبؤس واليأس والشقاء، إلى حياة جديدة مملوءة بسعادة حقيقية تتجاوز بعدي الزمان والمكان.

لقد تعلمت ماري من بديع الزمان عبر رسائل النور حكمة الله تعالى في خلقه لمخلوقات كثيرة متباينة لا تحصى ولا تعد كما عرفت عبر كتاباته أن مخلوقات الله جميعها تعمل لتحقيق أهداف خلقت لأجلها وأن هذا الكون يسير وفقًا لنظام بديع دقيق لا مجال فيه للخطأ.. لقد توصلت إلى أن كل مخلوق يعتبر آية من آيات الله تعالى، وعلامة تدل على قدرته المطلقة وسلطانه غير المحدود.

وجدت بطلة قصتنا في "رسائل النور" ملاذها الأمين الذي اكتشفت فيه البون الشاسع بين ماضيها المظلم الذي كان يتسم بالرفض والتمرد على كل شيء وحاضرها المشرق الزاهر الذي أصبحت فيه تعيش في تجاوب باهر وانسجام مع الوجود، إذ لم تشعر بالسكينة والقناعة والاطمئنان إلا بعد أن دخلت عالم الإسلام هذا العالم الوادع الجميل.

وعن التأثير الذي أحدثه في نفسها كتاب "رسائل النور" تحدثت ماري في كتابها "رحلتي من الكنيسة إلى المسجد: لماذا؟" قائلة: "بدأت تتفتح أمامي دنيا تبدو ذات معنى ومغزى وانسجام وتناغم مع جمال زاهر، فلقد تعلمنا لغة جديدة للتفاهم مع الدنيا والكون، هي لغة القرآن الكريم، تعلمناها من بديع الزمان سعيد النورسي، الذي أفهمنا الإيمان الخالص في رسائل النور: ما الكون؟ وما الطبيعة؟ ومن نحن؟ ولماذا هذه الأعداد من المخلوقات؟ وما وظائفها؟ ولماذا وجدوا وإلى أين المصير؟ وكيف أن الإسلام دين كامل متكامل؟ وكيف أنه يخاطب عقل الإنسان ومداركه، وكل لطائفه ومشاعره؟ وكيف يجب أن ننظر إلى الكون من حولنا؟ نرتفع بأعيننا من الإحساس بالمادة إلى الإحساس بالمعنى، ومن عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، وننظر من خلال الخلق إلى أسماء الخالق العظيم والرحمن الحكيم".

وجدت ماري في "رسائل النور" الاجابات الشافية عن أسئلة ظلت تؤرق مضجعها لفترة طويلة حيث توصلت إلى أن الحضارة الغربية القائمة التي تدّعي بأنها حضارة نصرانية، ما هي إلا تطور للحضارة الإغريقية الرومانية القديمة.. بالإضافة إلى ما سبق ذكره استخلصت ماري نقطتين مهمتين: تتحدث النقطة الأولى عن الادعاء الكاذب للكنيسة حينما اعتبرت نفسها ممثلة للنصرانية، بينما تتعارض معتقداتها مع الوحدانية التي أتى بها المسيح -عليه السلام-. أما النقطة الثانية فتتحدث عن المعارضة الصارمة من قبل الكنيسة لممارسة الفكر وتطوير العلم والمعرفة.

وتوقفت ماري كثيرًا عند الأسس الفاسدة التي قامت عليها حضارة الغرب كما تحدث عنها النورسي الذي فضح الحضارة الغربية، فتوصلت بذلك إلى السر الكامن وراء وقوف الغرب بشدة ضد الإسلام كعقيدة ومنهاج حياة، إذ إن الحضارة الغربية التي بنيت على القوة المادية والمنفعة الحسية تريد أن تتعامل مع بقية الحضارات من هذين المنطلقين، وهما أمران يرفضهما الإسلام بشدة لأن شريعته السمحة تدعو إلى العدالة المطلقة حيث لا تفريق بين جنس وآخر، كما أنها تدعو إلى نصرة الضعيف حتى يأخذ حقه؛ إذًا هناك تناقض بين الحضارتين الغربية والإسلامية، فالقوة في الحضارة الغربية يقابلها الحق في الإسلام، والمنفعة في تلك الحضارة المادية تقابلها الفضيلة في المنظور الإسلامي، بينما العنصرية تقابلها الدعوة الخالدة: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".

من هذه النقطة بدأت ماري دفاعها عن الإسلام حيث أخذت تفند الدعاوى التي روج لها كل من الدولة والكنيسة والمستشرقين لدى العامة من أبناء الحضارة الغربية والتي تزعم بأن الإسلام هو "دين السيف" تلك الدعاوى المغرضة التي رسمت صورة ذهنية سلبية عن الإسلام وأظهرته بمظهر الدين العدواني المعادي للحضارة الحديثة، الرافض لكل جديد.

وتتحدث ماري في كتابها عن أن وسائل الإعلام الغربية التي يسيطر عليها المتعصبون من أعداء الإسلام توظف بدهاء صورة المسلمين الذين يفدون إلى الغرب، حاملين معهم تصرفات تسيء إلى الإسلام، وتستغلها كفرصة ذهبية لتشويه دين الله الحنيف..

وهنا تقترح ماري على الدعاة أن يغيروا أسلوب دعوتهم إلى الإسلام في أوروبا وينتقلوا من الأسلوب التقليدي، إلى الأسلوب العلمي الحديث الذي يقدم الإسلام إلى الغرب على أنه التفسير المنطقي للكون ومن فيه، وأن يوضحوا ما ذكره القرآن الكريم من أن الله عزّ وجلّ لم يخلق الإنسان والكون عبثًا، كما نصحتهم بضرورة توضيح حقيقة تكريم الإسلام للمرأة مع تركيزهم على التفكك الأسري المريع الذي تتعرض له البيوت في المجتمعات الغربية، وهو تفكك ناجم عن هجر المرأة لدورها الطبيعي الذي جبلت عليه، والذي قرره لها خالقها سبحانه وتعالى، وأن يوضحوا في هذا الجانب المفهوم الخطأ الذي يسعى إلى المساواة بين الرجل والمرأة، باعتباره مفهومًا خطأً مجافيًا للفطرة لم يزد المرأة إلا رهقًا ورقًّا، إذ حوّلها من إنسانة كرمها الله تعالى إلى آلة عبثية يلهون بها كما يشاؤون باسم الحرية..

هذا هو المنهج الدعوي الذي تفضله وتدعو إليه ماري ويلدز..

منهج يتسق مع الإسلام تمام الاتساق..

فالإسلام لا يمتّ بصلة إلى الصورة المشوهة التي رسمها الكارهون له في الغرب..

الإسلام هو طوق نجاة البشرية.. هو طوق نجاتك أنت..

هو مركب يأخذك وينقذك من عواصف الكفر والتكذيب والبعد عن الله..

فاركب معنا.. نقولها لك كما قالها نوح -عليه السلام- لابنه الضال..

ولكن ابنه للأسف لم يستمع إلى النصيحة.. فهلّا سمعتها أنت؟!!

لا تذهب بقدميك إلى مصير ابن نوح..

اسأل الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.

-----------------

الألفي، أسامة (2005)؛ لماذا أسلموا؟ القاهرة: أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي.

ويلدز، ماري (1990)؛ رحلتي من الكنيسة إلى المسجد لماذا؟ مكتبة المهتدين الإسلامية.

 


تعليقات (
0
)

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وإنما هي وجهات نظر أصحابها فقط.