قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ (2) الفاتحة
ماذا لو مرّت عليك سيارة وجليسك إلى جوارك، فذكر لك أن هذه السيارة، التي تتكوّن من مجموعة أجزاء، قد صنعت نفسها بنفسها، وأن هذه الأجزاء قد جاءت وحدها، وتركّبت بهذا الشكل وحدها، كل جزء منها في مكانه لا يخطئه؟! بالتأكيد ستكذّبه مباشرة، لأن ما ذكره لا يقبله عقل؛ إذ إن هذه السيارة لا بدّ لها من صانع، صنع هذه الأجزاء وركّبها، وأعدها للاستعمال، فكذلك الناظر إلى الدنيا لا بدّ من أن يوقن بأن لها ربًّا، خلقها بهذا النظام البديع، من شمس وقمر، وسماء وأرض، وجبال وسهول، وصيف وشتاء، بل إن الناظر في نفسه لا بدّ من أن يوقن بأن له ربًّا، خلقه وصوّره، جعل له السمع والبصر والفؤاد، وخلق له اليدين والرجلين بهذا النظام البديع، وزيّن صورته وحسّنها، وفضّله على سائر المخلوقات، بل وسخّر كثيرًا منها لخدمته.
فانظر مثلًا إلى البقرة وضخامتها، وكيف ذلّلها الرّب تبارك وتعالى للبشر، يأكلون لحمها، ويشربون من لبنها، وينتفعون بجلدها، ثم انظر إلى الثعبان، الذي هو على قدر ذيل البقرة، ولكنه لم يسخّر لخدمة الإنسان، إذا رآه الإنسان يفرّ مذعورًا منه خائفًا، فسبحان الله، الذي خلق كل شيء بحكمة، وقد تدبّر هذا الأعرابي في الجاهلية فأخذ يقول: البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا تدلُّ على اللطيف الخبير؟! نقول: بلى.
والأدلة على وجود الرّب تبارك وتعالى وتوحيده كثيرة ولا يمكن حصرها، ولعلنا في الأسطر الآتية نتحدّث عن بعضها، فتعال معي ننظر سويًّا في هذا الأمر، ألا وهو توحيد الربوبية، وقبل أن نذكر الأدلة الدالة على توحيد الربوبية، نعرف أولًا معنى الربوبية:
معنى الرّب:
الرّب في اللغة له معانٍ عدّة، فهو: المالك، والمتصرّف، والمدبّر، والسّيد، ولفظ الرّب لا يطلق على الإله وحده، ولذلك قال جدّ النبي (صلّى الله عليه وسلّم): أنا ربّ الإبل، وللبيت ربّ يحميه، ولذلك يقال للإنسان: هذا فلان ربّ أسرة. فيأخذ معنى التنشئة والنمو، ولذلك يقال: هذا يربّي أسرة أي: ينمّيها، ويقال: هذا يربّي غنمًا وهذا يربّي دجاجًا وهذا كذا، أي: يحرص على تنشئتها وتنميتها، والإحسان إليها وإطعامها وغير ذلك.
أما تعريفه في الاصطلاح: فهو إفراد الله بأفعاله، أي: بأفعال الرّب سبحانه وتعالى، وقوله: أفعاله لتشمل جميع أفعال الله تعالى: الخلق، الرزق، الإحياء، الإماتة، التدبير، ومنهم من يعرّفه فيقول: هو الإقرار والاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق المدبّر المصرّف لهذا الكون وحده لا شريك له، بمعنى: أنه لا يشركه في أفعاله أحد أبدًا، الإحياء لا يشركه فيه أحد، الإماتة لا يشركه فيها أحد، الرزق لا يشركه فيه أحد، التصريف في هذا الكون لا يشركه فيه أحد أبدًا، فمن أوجد شريكًا مع الله في ربوبيته لم يكن موحّدًا لله تعالى.
وقد دلّ على توحيد الربوبية أدلة عدّة، وهذه الأدلة بمجموعها تدلّ على وجود الله، وعلى توحيد الربوبية، بل تدلّ على أنواع التوحيد الثلاثة؛ ذلك أن أنواع التوحيد الثلاثة متلازمة، ومن أشرك في واحد منها فهو مشرك في البقية. ومن هذه الأدلة:
أولًا: دلالة الشرع
أما دلالة الشرع فواضحة معلومة؛ فما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب يدلّ دلالة قاطعة على إجماع الأمم على وحدانية الله، فالكتب السماوية كلها تنطق بذلك، وما جاءت به من الأحكام المتضمّنة لمصالح العباد في دنياهم وأخراهم؛ كشرائع الأمم السابقة، وكالصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها، كتشريعات لأمة مُحمَّد (صلّى الله عليه وسلّم)، وما جاءت به من الأخبار الكونية، والمغيبات التي شهد الواقع بصدقها كل ذلك يدلّ على أنها من ربٍّ حكيمٍ عليمٍ مستحقٍ للعبادة وحده لا شريك له.
ودلالة الشرع واضحة معلومة لمن آمن بالشرع وصدّقه، فالذي يقرأ القرآن الكريم، ويقرأ السنّة يزداد يقينه وإيمانه بأن له ربًّا، ولما كان كثير من الناس يقدمون العقل، ويغلّبونه على النقل، كان الحديث على الدلالة الثانية:
ثانيًا: الضرورة العقلية
أما دلالة العقل على توحيد الربوبية؛ فلأن المخلوقاتِ جميعَها لا بدّ لها من مُوجِد وخالق؛ إذ لا يمكن أن توجِد نفسَها بنفسِها، ولا يمكن أن توجَدَ مصادفة.
فهذه المخلوقات لا يمكن أن تُوجِد نفسها بنفسها، لأن الشيء لا يخلق نفسه، ولأنه قبل وجوده معدوم، فكيف يكون خالقًا؟! وكذلك لا يمكن أن توجد مصادفة؛ لأن كل حادث لا بدّ له من مُحدِثٍ، ولأن وجودها على هذا النظام المتسق البديع المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسبّبات وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعًا باتًّا أن يكون وجودُها مصادفة.
أضف إلى ذلك ما تجده من افتقار المخلوق الشديد؛ فالافتقار وصف ذاتي للمخلوق ملازم له؛ ما يدلّ على أنه لا بدّ من وجود خالق، كامل، غني عمّا سواه، وهو ربّ العالمين. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القاطع في سورة الطور، حيث قال سبحانه:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُوْنَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوْقِنُوْنَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُوْنَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُوْنَ فِيْهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِيْنٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُوْنَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُوْنَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُوْنَ (41) أَمْ يُرِيْدُوْنَ كَيْدًا فَالَّذِيْنَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيْدُوْنَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ (43) الطور.
وهذا المقام في إثبات الربوبية، وتوحيد الألوهية، قال تعالى: أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُوْنَ؟ أي أُوجدوا من غير مُوجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم، بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا. روى البخاري، عن جبير بن مطعم قال: "سمعت النبي (صلّى الله عليه وسلّم) يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُوْنَ * أَمْ خَلَقُوْا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوْقِنُوْنَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُوْنَ؟ كاد قلبي يطير". وكان يومئذٍ مشركًا.
ثم قال تعالى: أَمْ خَلَقُوْا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوْقِنُوْنَ؟ أي أهم خلقوا السماوات والأرض؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له، (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُوْنَ)؟ أي أهم يتصرّفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُوْنَ)؟ أي المحاسبون للخلائق، بل الله عزّ وجلّ هو المالك المتصرف الفعّال لما يريد. وقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُوْنَ فِيْهِ)؟ أي مرقاة إلى الملأ الأعلى، (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِيْنٍ)، أي فليأت الذي يستمع لهم بحجّة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال، ثم قال منكرًا عليهم فيما نسبوه إليه من البنات، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث، وقد جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُوْنَ)؟ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا)، أي أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله، أي لست تسألهم على ذلك شيئًا، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُوْنَ) أي فهم من أدنى شيء يتبرّمون منه، ويثقلهم ويشق عليهم، (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُوْنَ)؟ أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا الله، (أَمْ يُرِيْدُوْنَ كَيْدًا فَالَّذِيْنَ كَفَرُوْا هُمُ الْمَكِيْدُوْنَ)، يقول تعالى: أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) وأصحابه، فكيدهم يرجع وباله على أنفسهم، فالذين كفروا هم المكيدون، (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ)؟، وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله، ثم نزّه نفسه الكريمة عمّا يقولون ويفترون، ويشركون، فقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ).
ولهذا نجد أن الله سبحانه وتعالى يحثّ كثيرًا في كتابه على التعقّل والتبصّر؛ ولا أدلّ على ذلك من كثرة الآيات التي تُخْتَمُ بمثل قوله: (أفّلَا تَعْقِلُوْنَ) و(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنْ)؛ لأن الإنسان إذا تفكّر تذكّر، وعرف الحق، وإذا تذكّر خاف واتّقى وانقاد.
ولهذا نجد أن العقلاء الجادين الباحثين عن الحق يصلون إليه، ويوفّقون له، وليس أدلّ على ذلك من حال العقلاء في الجاهلية أمثال قُس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد، فنحن نجد في ثنايا كلامهما الإقرار بتوحيد الله عزّ وجلّ، مع أنهما يعيشان في مجتمع يعجّ بالجهل والشرك.
يقول قُس في خطبته المشهورة التي ألقاها في سوق عكاظ: "أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آتٍ، ليلٌ داج، ونهارٌ ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تُزهر، وبحار تزْخَر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخبرًا وإن في الأرض لعبرًا، ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا في المقام فأقاموا؟ أم تُرِكوا فناموا؟". ويقسم قُس بالله قسمًا لا إثم فيه أن لله دينًا هو أرضَى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكرًا.
بل إن كثيرًا من كبار المفكرين الغربيين اهتدوا إلى الحق بسبب إجالتِهم أفكارَهم وبحثهم عن الحق. فهذا عضو مجلس النواب الفرنسي الدكتور غرونييه، يقول: "إنني تتبّعت كل الآيات القرآنية ذات الارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، التي درستها منذ صغري، وأعلمها جيّدًا، فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمت لأني تيقّنت بأن محمدًا أتى بالحق".
وهذا الطبيب الفرنسي المشهور موريس بوكاي، يقول: "لقد قمت بدراسة القرآن من دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامّة، باحثًا عن اتفاق نصّ القرآن ومعطيات العلم الحديث.. أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أي مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث".
ومن نظر في كتاب (الله يتجلّى في عصر العلم)، وقد كتبه ثلاثون من علماء الطبيعة والفلك ممن انتهت إليهم الرياسة في هذه الأمور، ومثله كتاب (كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك (الإنسان لا يقوم وحده) وتُرجم إلى العربية تحت عنوان (العلم يدعو إلى الإيمان)، يدرك أن العالِمَ الحقيقيَّ لا يكون إلا مؤمنًا، وأن العاميَّ لا يكون إلا مؤمنًا، وأن الإلحاد والكفر لا يكونان إلا من أنصاف العلماء وأرباع العلماء؛ ممن تعلّم قليلًا من العلم، وخسر بذلك الفطرة المؤمنة، ولم يصل إلى العلم الذي يدعو إلى الإيمان. وبهذا يتبيّن لنا أن العقل يدلّ على وحدانية الله عزّ وجلّ.
أما إذا أنكر العقل ذلك فإن الخلل في العقل نفسه. ومن هنا يتبيّن لنا بطلان قول من قال: إن هذا الكون نشأ بالمصادفة، أو أن الطبيعة هي الخالق. ومثل هذه الدعاوى ليست إلا مكابرةً وعنادًا لما هو متقرّر بالمعقول والمنقول، فمن قال: إن هذا الكون نشأ عن طريق المصادفة يقال له: كيف نشأ هذا الكون الفسيح العظيم المتّسق المتناسق عن طريق المصادفة؟!
وكمثال عملي يبيّن استحالة القول بوجود الكون مصادفة، خذ عشر بطاقات صغيرة الحجم ورقّمها من 1 إلى 10.. ضعها في جيبك واخلطها ما استطعت، وحاول أن تخرجها دون أن تنظر إليها الواحدة تلو الأخرى، وبحسب ترتيب أرقامها.. التي تحمل الرقم 1 أوّلًا والتي تحمل الرقم 2 ثانيًا والتي تحمل الرقم 3 ثالثًا، وهكذا..، على أن تعيد كل بطاقة تخرجها من جيبك وتخلط البطاقات جميعها مرّة أخرى قبل أن تخرج البطاقة التالية.
إن احتمال إخراج البطاقة رقم 1 أوّلًا هو واحد من عشرة، واحتمال إخراج البطاقتين الأولى والثانية بحسب ترتيبهما هو واحد من مئة، واحتمال إخراج البطاقات الثلاث الأولى على التوالي هو واحد من ألف، وهكذا فإن احتمال إخراج البطاقات العشر تباعًا وبحسب ترتيبها هو واحد من عشرة مليارات.
وبناء على هذه الحقيقة العلمية البسيطة، فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والاتفاق؟ إن حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خيالًا يصعب حسابه فضلًا عن تصوّره. فتأمّل هذا الكون الشاسع من أصغر ذرّة إلى أكبر مجرّة فيه، وكلّها تقوم على نظام مُحكم، فكيف يكون قد أتي مصادفة، أو أوجد نفسه بنفسه، وهو قبل ذلك كان معدومًا!
إن ما في هذا الكون يحكي أنه إيجاد مُوجد حكيم عليم خبير، لكن الإنسان ظلوم جهول. أما القول إن الطبيعة هي الخالق فتلك فرية عظيمة لا دليل عليها، وتهافتها واضح بيِّن لا يحتاج إلى أي ردّ، بل إن تصوّر ذلك كافٍ في الرّد على أصحابه.
ومن الأدلة العقلية ما أومأ إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُوْنَ (35) الطور، هل أنت خُلقت من غير شيء؟ ستجد الإجابة معروفة: أنني خلقت من شيء. أم أنا الذي خلقت نفسي؟ أعرف بأني لم أخلق نفسي.
لم يأتِ الجواب، كأنه يريد أن تستنتج هذا أنت بعقلك، فتعرف بأن الخالق لك هو الله وحده لا شريك له. وقد ذُكرت قصة مشهورة عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أنه جاءه بعض الملاحدة، وكانوا ينكرون الرّب، فقال: دعونا من مسألة الرّب، أي: كونه موجودًا أو غير موجود، أريد أن أسألكم سؤالًا، وكان في العراق -رحمه الله- قال: هناك سفينة على نهر دجلة تأتي إلى طرف الشاطئ وتحمل البضائع دون أن يكون لها رُبان، أي: قائد لها، ثم تُنزل البضائع في الشاطئ من الجهة الأخرى وترجع دون أن يكون معها أحد، قالوا: هذا أمر مستحيل ولا يمكن تصديقه، قال: سبحان الله! سفينة صغيرة، وفي شواطئ نهر فقط، ويستحيل هذا الأمر، كيف بالكون كلّه، فبهتوا وأقروا بأن الله هو المدبّر لهذا الكون وحده لا شريك له.
ويضربون أمثلة على توحيد الربوبية وتفاصيله وغيره، كقول بعض الشيوعيين والدهريين والطبائعيين وغيرهم إن الأمر حدث بالمصادفة، ولا يمكن أن يكون له إلهٌ ولا ربٌ، وهذا كلام باطل، ولهذا ضربوا مثالين لطيفين: قالوا: لو قلنا بقضية المصادفة، فلو جئنا مثلًا بقرد وأعطيناه آلة كاتبة، ثم قلنا للناس: ضرب هذا القرد على الآلة الكاتبة، فأخرج لنا رسالة عظيمة جدًّا ولطيفة في مسائل في علمٍ من العلوم، قالوا: لا يمكن أبدًا، كيف يكتب الحروف ويصيغها؟ قلنا: مصادفة، قالوا: لا نصدق، قلنا: سبحان الله!! الكون كلّه تقولون: مصادفة بنظامه، وله ملايين السنين بل مليارات السنين، والله قد جعل له سننًا كونية باقية فيه، تقولون: إنه مصادفة، وهذا القرد لا يمكن أن يكتب مصادفة، فدلّ على نقص عقولهم.
ومن اللطائف الأخرى، قالوا: حدث أن مطبعة انفجرت، فطارت الحروف والأوراق ولصقت بالورقة وأخرجت لنا رسالة أو قصيدة جميلة جدًّا، وهذا حدث مصادفة، قالوا: لا يمكن أبدًا، فيقال: إذا لم يمكن هذا في ورقة وفي رسالة صغيرة، فكيف بهذا الكون العظيم البديع الذي دبّره الله سبحانه وتعالى؟
ثالثًا: نداء الفطرة
الفطرة في اللغة هي الخلقة، أما في الشرع فهي الإسلام على القول الراجح. وكل مخلوق قد فُطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه.
قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيْفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِيْ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُوْنَ (30) الروم.
يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الذي شرّعه الله لك، من الحنيفية ملّة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره، كما تقدّم عند قوله تعالى: .. وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا.. (172) الأعراف.
وفي الحديث: "إني خلقت عبادي حُنَفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم".
إن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية أو النصرانية أو المجوسية. ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذلك: "ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه".
والإنسان مفطور على اللجوء إلى ربّه تبارك وتعالى عند الشدائد، فإذا ما وقع الإنسان حتى الكافر الملحد في شدّة، أو أحدق به خطر فإن الخيالات والأوهام تتطاير من ذهنه، ويبقى ما فُطر عليه ليصيح بأعلى صوته، ومن قرارة نفسه، وعميق قلبه، مناديًا ربّه؛ ليفرّج كربته وهمّه، ويلجأ إليه وحده دون سواه.
وصدق الله تعالى إذ يقول: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُوْنَ (65) العنكبوت.
وليس المراد بأنه يولد على الفطرة أنه يولد عالمًا بأمور الإسلام؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُوْنِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُوْنَ شَيْئًا.. (78) النحل.
بل المراد أن كل مولود يولد على محبته لفاطره، وإقراره له بربوبيته، وادعائه له بالعبودية، فلو خُلِّي وعدمَ المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية، والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه.
رابعًا: دلالة الحسّ
الحس يدلّ بوضوح على وجود الله ووحدانيته سبحانه وتعالى والأدلة الحسيّة على ذلك كثيرة جدًّا، ولقد حثّ الله عزّ وجلّ عباده على أن يستشعروا ذلك وأن ينظروا إليه، قال الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِيْنَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُوْنَ (21) الذاريات.
قال القرطبي: "قدر الأقوات فيها قوامًا للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم، خصّهم بالذكر، لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبّرها. وقال قتادة: المعنى من سار في الأرض رأى آيات وعبرًا، ومن تفكّر في نفسه علم أنه خُلق ليعبد الله.
قوله تعالى: (وَفِيْ أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُوْنَ) قيل: وفي خلق أنفسكم من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم إلى نفخ الروح، وفي اختلاف الألسنة والألوان والصور، إلى غير ذلك من الآيات الباطنة والظاهرة، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وما خُصّت به من أنواع المعاني والفنون، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف والأبصار والأطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). (أَفَلا تُبْصِرُونَ) يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته.
ولو أن الإنسان أنعم النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله، ونظر ظاهره وما فيه من كمال خلقه، وأنه متميز عن سائر الحيوانات، لأدرك أن وراء ذلك ربًّا خالقًا حكيمًا في خلقه، ولعلم أن هذا الخالق هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه.
والمقصود أن نفس الإنسان من أعظم الأدلة على وجود الله وحده، ومن ثم تفرّده بالعبادة.
ومن الأدلة الحسيّة: النظر إلى أنواع النباتات؛ فالماء ينزل من السماء عديم اللون والطعم والرائحة، ينزل على الأرض الجرداء، ثم يخرج بإذن الله من جَرَّاء ذلك نباتاتٌ مختلفة في اللون، والطعم، والرائحة، فبعضها حلو، وبعضها حامض، وبعضها مُزٌّ، وبعضها أخضرُ، وبعضها أصفرُ، وبعضها أسود.
يقول الله تعالى بيانًا لأنه الخالق لكل شيء: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوْشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوْشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِيْنَ (141) الأنعام.
وقال الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيْلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُوْنَ (4) الرعد.
قوله: (وَفِيْ الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ) أي أراضٍ يجاور بعضها بعضًا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئًا، ويدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه سهلة، وهذه سميكة وهذه رقيقة، والكل متجاورات، فهذا كلّه مما يدلّ على الفاعل المختار لا إله إلا هو، وقوله: (صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ) الصنوان هو الأصول في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل ونحو ذلك، وغير الصنوان ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار.
وهذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها وأوراقها وأزهارها، فهذا في غاية الحلاوة، وهذا في غاية الحموضة، وهذا في غاية المرارة، وهذا عفص، وهذا عذب، وهذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا أبيض، وكذلك الأزاهير مع أنها كانت تستمدّ من طبيعة واحدة هي الماء مع هذا الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعيًا، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد، ولهذا قال تعالى: (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِيْ الْأُكُلِ).
خامسًا: دلالة خلق الكون والمخلوقات
ومن الأدلة الحسية على توحيد الربوبية: النظر إلى ما خلق الله من حولك، فكما أن الله تعالى أمرك أن تنظر في نفسك، أمرك أن تنظر إلى المخلوقات من حولك، قال الله تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُوْنَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) الغاشية.
يقول تعالى آمرًا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته: (أَفَلَا يَنْظُرُوْنَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)؟ فإنها خلق عجيب وتركيبها غريب، وهي في غاية القوة والشدّة، وهي مع ذلك تنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها، ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل، وكان شُريح القاضي يقول: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت! أي كيف رفعها الله عزّ وجلّ عن الأرض هذا الرفع العظيم.
كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوْجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيْهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيْهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيْجٍ (7) ق، و(وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ)، أي جُعلت منصوبة فإنها ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها: وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن، (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)! أي كيف بُسطت ومُدت ومُهِدت، فنبه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه، والسماء التي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه، والأرض التي تحته، على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنه الرّب العظيم الخالق المالك المتصرف، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه.
عن أنَس قال: "كنا نُهينا أن نسأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن كل شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله، ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد إنا أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله، فقال: فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بها، قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا؟ قال: صدق، قال: ثم ولى، فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئًا ولا أنقص منهن شيئًا، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إن صدق ليدخلن الجنة".
سادسًا: دليل الهداية
ذكر العلّامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه القيّم (شفاء العليل) أمورًا عجيبة تدلّ على أن للكون ربًّا هو أحسن الخالقين سبحانه، فقد تحدّث عن هداية النحل بما يستحق المشاهدة والتدبّر والتفكّر، حيث تحدّث عن اتخاذها اليعسوبَ أميرًا، وعن طريقة ولادتها، ورعيها، ودقة تنظيمها، وتوزيعها المهام على فرق شتى، فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه، ومنها فرقة تهيِّئ الشمع وتصنعه، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل. وإذا رأت النحل بينها نحلةً مهينةً بطالةً قطَّعَتْها، وقتلتها؛ حتى لا تفسد عليهن بقيةَ العمال، وتُعْديهِنَّ ببطالتها ومهانتها.
وتحدّث أيضًا -رحمه الله- عن طريقة بنائها البيوت، فقال: ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية، كأنها سككٌ ومحالٌّ، وتبني بيوتها مسدسةً متساويةَ الأضلاع، كأنها قرأت كتاب إقليدس حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها؛ لأن المطلوب من بناء الدُّور هو الوثاقة والسعة، والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلًا مستديرًا كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشد بعضه بعضًا حتى يصير طبقًا واحدًا محكمًا، لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر، فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناءَ المحكمَ.
ثم تحدّث عن طريقة خروجها للمرعى، وادّخارها للكسب ثم قال: وفي النحل كرامٌ لها سعيٌ وهمّةٌ، واجتهادٌ، وفيها لئامٌ كسالى قليلةُ النفع مؤثرةٌ للبطالة؛ فالكرام دائمًا تطردها وتنفيها عن الخليّة.
وتحدّث أيضًا عن هداية النمل قائلًا: وهدايتها من أعجب شيءٍ؛ فإن النملةَ الصغيرةَ تخرج من بيتها وتطلب قُوْتَها، وإن بعدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته، وساقته في طرق معوجة بعيدةٍ ذاتِ صعودٍ وهبوطٍ في غاية التوعر، حتى تصلَ إلى بيوتها فتخزّن فيها أقواتها وقت الإمكان، فإذا خزّنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين؛ لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقِهِ باثنتين فَلَقَتْه بأربع، فإذا أصابه بلل، وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يومًا ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى منه نملة مما جمعه غيرها.
ويكفي في هداية النمل ما قاله الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان- عليه السلام- كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: .. يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُوْدُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُوْنَ (18) النمل.
قال ابن القيم: وهذا الحمام من أعجب الحيوان هدايةً. وبُرُدُ الحمامِ هي التي تحمل الرسائل والكتب. وهداية الحمام على قدر التعليم والتوطين، وهو موصوف باليمن والإلف للناس، ويحب الناس ويحبونه، ويألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه، وإن أساء إليه، ويعود إليه مسافات بعيدة، وربما صُدَّ فترك وطنه عشرَ حججٍ وهو ثابت على الوفاء حتى إذا وجد فرصة واستطاعةً عاد إليه.
أما طريقة سِفاده وجمعه عِشَّه، واعتنائه ببيضه وصغاره فهي من أعجب العجب.
ومن عجيب هداية الديك الشاب أنه إذا أُلْقِيَ له حبٌّ لم يأكلْه، حتى إذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق، كما قال المدائني: إن إياس بن معاوية مرّ بديك ينقر حبَّا ولا يفرقه فقال ينبغي أن يكون هرمًا؛ فإن الديك الشاب يفرق الحب؛ ليجتمع الدجاج فتصيب منه، والهرم قد فنيت رغبته فليس له همّة إلا نفسه.
ومن عجيب أمر الثعلب أن ذئبًا أكل أولاده وكان للذئب أولاد، وهناك زُبية، فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها، وحفر فيها سردابًا يخرج منه، ثم عمد إلى أولاد الذئب، فقتلهم وجلس ناحية ينتظر الذئب، فلما أقبل وعرف أنها فِعْلَتُه هرب قُدَّامه وهو يتبعه فألقى نفسه في الزبية، ثم خرج من السرداب، فألقى الذئب نفسه وراءه، فلم يجده ولم يطق الخروج، فقتله أهل الناحية.
ومن عجيب أمره أنه رأى رجلًا ومعه دجاجتان، فاختفى له، وخطف إحداهما، وفَرَّ، ثم أعمل فكره في أخذ الثانية، فتراءى لصاحبها من بعيد، وفي فمه ما يشبه الطائر، وأطمعه في استعادتها بأن تركه وفرّ، فظن الرجل أنها الدجاجة، فأسرع نحوها، فخالفه الثعلب إلى أختها فأخذها وذهب.
ومن هداية الحمار وهو من أبلد الحيوان، أن الرجل يسير به، ويأتي به إلى منزله في البعد في ليلة مظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلِّي جاء إليه. ثم إنه يُفرِّق بين الصوت الذي يُسْتَوْقَفُ به، وبين الصوت الذي يُحث به على السير.
ومن عجيب أمر الفأرة أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرة فَنَقَصَ، وعَزَّ عليها الوصولُ إليه ذهبت وحملت في أفواهها ماءً وَصَبَّتْهُ في الجرة؛ حتى يرتفع الزيت فتشربه.
وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورًا تنفعه في معاشه وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره. وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس، قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُوْنَ أَوْ يَعْقِلُوْنَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيْلًا (44) الفرقان.
قيل لرجل: مَنْ علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخلّ به؟ قال: مَنْ علّم الطير تغدو خماصًا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض؟
وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك السكونَ، والتحفظ، والتماوت حتى تظفر بإربك، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته؟ فقال: الذي علّم الهرّة أن ترصد جحر الفأرة فلا تتحرّك، ولا تتلوّى، ولا تختلج، حتى كأنها ميتة، حتى إذا برزت الفأرة وَثَبَتْ عليها كالأسد.
وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك حسن الإيثار والبذل والسماحة؟ قال: مَنْ علّم الديك يصادف الحبّة في الأرض وهو يحتاج إليها ولا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلبًا حثيثًا حتى تجيء الواحدةُ منهن، فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وضع له الحب الكثير فَرَّقه ها هنا وها هنا وإن لم يكن له دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود؛ فهو يرى أنه من اللؤم أن يستبدّ وحده بالطعام.
ومَنْ علّم الأسد إذا مشى وخاف أن يُقْتَفَى أثره ويُطلب؟ عَفَّى مِشْيَته بذنبه؟!
ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها ألا تأكل إلا من فريستها، وإذا مرّ بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع؟!
ومن علّم الأنثى من الفيلة إذا دنا وَقْتُ ولادتها أن تأتي إلى الماء، فتلدَ فيه؛ لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان، وهي عالية، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع، أو ينشق، فتأتي ماء وسطًا تضعه فيه يكون كالفراش الليّن والوطاء الناعم؟!
ومَنْ علّم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر؟!
وهذا كلّه من أدلّ الدلائل على الخالق لها سبحانه وتعالى وعلى إتقان صنعه، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته؛ فإن فيما أودعها من غرائب المعارف، وغوامض الحيل، وحسن التدبير، والتَّأتي لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته، ومعرفة حكمته، وقدرته، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثًا، ولم يترك سدًى، وأن له حكمةً باهرةً، وآيةً ظاهرة، وبرهانًا قاطعًا، يدلّ على أنه ربّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنه المنفرد بكل كمالٍ دون خلقهِ، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.
سابعًا: دلالة الآفاق
ومن الآيات الدالة على توحيد الربوبية دلالة الآفاق التي يراها كل أحدٍ؛ العالم والجاهل، المؤمن والكافر، فلو تأمّل الإنسان بعين البصيرة والتدبّر والتفكر لأدرك عظمة مَنْ أنشأها، ولَدَعاه ذلك إلى عبادته وحده لا شريك له.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي عند قوله تعالى: سَنُرِيْهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.. (53) فصلت: وقد فعل تعالى فإنه أرى عباده من الآيات ما به تبيّن أنه الحق، ولكن الله هو الموفق للإيمان من شاء، الخاذل لمن يشاء.
وقال في موطن آخر أيضًا: كلما تدبّر العاقل في هذه المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع الكائنات علم أنها خلقت للحق بالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين، ودلالات على جميع ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، وأنها مدبّرات، مسخّرات، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبّرها ومصرّفها، فتعرف أن العالَم العلويَّ والسفلي كلَّهم إليه مفتقرون، وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا هو ولا ربّ سواه.
وفي كل عصر من العصور يُطلع الله عباده على أمور عظيمة في هذا الكون الفسيح. وفي العصور المتأخرة ظهر العديد من الاكتشافات والمخترعات والحقائق العلمية، ولا يزال الباحثون يكتشفون في كل يوم سرًّا من أسرار هذا الكون العظيم، ما جعلهم يقفون حائرين واجمين معترفين بالتقصير والعجز، وأن هناك عوالمَ أخرى مجهولةً، وأخرى لم تكتشف بعد.
وخلاصة القول في هذا: إن كل ما في الآفاق يدلّ دلالة قاطعة على وجود مدبّر حكيم، ربّ عليم، مستحق للعبادة، ولكن: إذا لم يكن للمرء عينٌ صحيحةٌ، فلا غرو أن يرتاب والصبح مُسفر.
والأدلة على توحيد الربوبية كثيرة، ولعلّ فيما ذكرنا كفاية.
والإيمان بتوحيد الربوبية ونَفْيِ الشَّرِكَةْ في الربوبية على درجتين:
الدرجة الأولى: واجبة على كل مُكَلَّف، ومن لم يأتِ بها فليس بموحّد، بل هو مشرك، وهو ما ذكرنا من الاعتقاد أنَّ الله واحدٌ في ربوبيته؛ في أفعاله سبحانه، فهو الخالق وحده، وهو الرزّاق وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهو النافع الضار وحده، وهو مُدَبِّرُ الأمور وحده، وهو خالق الخَلق وحده، إلى آخر أفراد ذلك، وهذه واجبة على كل أحد.
الدرجة الثانية: وهي مرتبةٌ للخاصة وأهل العلم وهي شهود آثار الربوبية في خَلْق الله، وهذه بحيث لا يَرَى غير الله مُؤَثِرًا في هذا الملكوت، ولو كان تأثير معلولات عن عِلَلْ، أو تأثير مُسَبَّبَاتْ عن أسباب، فإنّه يَرَى أنْ لا مؤثر في الحقيقة ولا خالق إلا الله، وينظر لذلك في الملكوت متفكّرًا، متدبّرًا.
وهذه حال الخاصة وهي مستحبة، وهي لأهل العلم ولأهل الإيمان، وليست واجبة على كل أحد، كما قال سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِيْنَ يَذْكُرُوْنَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُوْدًا وَعَلَى جُنُوْبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُوْنَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران، وكما وصف الله بعض عباده بالتفكّر والنظر والتدبّر في خلق الله، بل أمر بذلك في بعض الآيات بقوله: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُوْنَ (101) يونس، وكقوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى.. (8) الروم، فهذا التَّفَكُرْ في خلق الله يدلّ على توحيده في الربوبية، وهو حال الخاصة، كما قال الحسن البصري: "عاملنا القلوبَ بالتفكّر فأورثها التذكّر، فرجعنا بالتذكّر على التفكّر، وحرّكنا القلوب بهما، فإذا القلوب لها أسماع وأبصار".
الفِرَق التي أشركت بالربوبية:
هناك أقوامٌ أشركوا بالربوبية، وفِرَقٌ أشركت به، ومن هؤلاء:
1- المجوس: "الأصلية" قالوا بالأصلين: النور والظلمة، وقالوا: إن النور أزليٌّ، والظلمة محدثة.
2- النصارى: "القائلون بالتثليث": فالنصارى لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضها عن بعض، بل هم متفقون على أنه صانع واحد يقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ويقولون: واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم. أما الأقانيم فإنهم عجزوا عن تفسيرها.
وقولهم هذا متناقض أيّما تناقض وتصوّره كافٍ في ردّه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورُها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرّقوا عن أحدَ عشرَ قولًا. وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولًا، وامرأته قولًا آخر، وابنه قولًا ثالثًا.
وقال ابن القيم -رحمه الله- في معرض ردّه عليهم: "أما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمةً أشدَّ اختلافًا في معبودها منكم؛ فلو سألت الرجل، وامرأته، وابنته، وأمه، وأباه، عن دينهم لأجابك كلٌّ منهم بغير جواب الآخر". بل قيل فيهم: "لو توجّهت إلى أي نصراني على وجه الأرض، وطلبت منه أن يصور لك حقيقة دينه، وما يعتقده في طبيعة المسيح تصويرًا دقيقًا لما استطاع ذلك".
3- القدرية: هم في الحقيقة مشركون في الربوبية، وهذا لازم لمذهبهم؛ لأنهم يرون أن الإنسان خالقٌ لفعله، فهم أثبتوا لكل أحد من الناس خَلْقَ فعله. والخلق إنما هو مما اختص الله به، قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُوْنَ (96) الصافات، وأفعال العباد لا يخرجها شيء من عموم خلقه عزّ وجلّ.
4- الثنوية: "أصحاب الاثنين الأزلييّن": يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس الذين قالوا بحدوث الظلام، لكن قالوا باختلافهما في الجوهر، والطبع، والفعل، والخبر، والمكان، والأجناس، والأبدان، والأرواح، ولم يقولوا بتماثلهما في الصفات والأفعال، كما ترى، وإن قالوا بتساويهما في القدم.
5- المانوية: "أصحاب ماني بن فاتك"، قالوا: إن العَالَمَ مصنوع من أصلين قديمين، ولكن قالوا باختلافهما في النفس، والصورة، والفعل، والتدبير.
6- الفلاسفة الدهرية: في قولهم في حركة الأفلاك بأنها تسعة، وأن التاسع منها وهو الأطلس يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وزعموا أن الله يحدث ما يقدره في الأرض.
7- عبدة الأصنام من مشركي العرب وغيرهم: ممن كانوا يعتقدون أن الأصنام تضر وتنفع، فيتقرّبون إليها، وينذرون لها، ويتبرّكون بها.
8- الروافض: لقولهم إن الدنيا والآخرة للإمام، يتصرف فيها كيف يشاء، وأن تراب الحسين شفاءٌ من كل داء، وأمانٌ من كل خوف، ولقولهم: إن أئمتهم يعلمون الغيب، ويعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا بإذنهم. وهذا باطل، وبطلانه لا يحتاج إلى دليل، بل إن فساده يغني عن إفساده.
9- غلاة الصوفية: لغلوهم في الأولياء، وزعمِهم أنهم يضرون، وينفعون، ويتصرفون في الأكوان، ويعلمون الغيب، ولقولهم بوحدة الوجود، وربوبيةِ كلِّ شيءٍ.
10- النصيرية: لقولهم بألوهية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبأنه المتصرف بالكون، ولوصفهم إياه بأوصاف لا يجوز أن يوصف بها أحد إلا الله عزّ وجلّ مع اختلاف أقوالهم في هذا؛ فبعضهم يقول: إنه يسكن في الشمس ويُسَمَّون بـ: الشمسية، وبعضهم يقولون: إنه يسكن في القمر، ويُسَمَّون بـ: القمرية، وبعضهم يقولون: إنه يسكن في السحاب، ولذا إذا رأوا السحاب قالوا: السلام عليك يا أمير النحل.
11- الدروز: لقولهم بألوهية الحاكم بأمر الله العبيد، وغلوهم فيه، ووصفِه بأوصافٍ لا تليق إلا بالله وحده، كقولهم عنه: "إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور".
12- من يعتقدون تأثير النجوم والكواكب والأسماء: وذلك كحال الذين يتتبّعون الأبراج ويقولون -رجمًا بالغيب- إذا ولد فلان في البرج الفلاني أو الشهر الفلاني أو اليوم الفلاني، أو كان اسمه يبدأ بحرف كذا أو كذا فسيصيبه كذا وكذا، ويضعون عليها دعاياتٍ تقول: مِنْ شهر ميلادك تعرف حظك، أو من اسمك تعرف حظك. وكل ذلك شرك في الربوبية؛ لأنه ادعاءٌ لعلم الغيبِ، والغيبُ لا يعلمه إلا الله وحده لا شريك له.
قد تبيّن مما تقدّم أن توحيد الربوبية حق، وأمره عظيم، ولا يصح إيمان العبد إذا لم يؤمن به، ولكن هذا النوع من أنواع التوحيد ليس هو الغايةَ التي جاءت بها الرسل، وأنزلت من أجلها الكتب، وليس الغايةَ التي من جاء بها فقد جاء بالتوحيد وكماله؛ ذلك أن الله أمر بعبادته التي هي كمال النفوس وصلاحها وغايتها، ولم يقتصر على مجرد الإقرار به كما هو غاية الطريقة الكلامية.
أضف إلى ذلك أن المشركين كانوا مقرّين به كما مرّ، ومع ذلك لم يدخلهم في الإسلام؛ لأن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي وحده، بل لا بدّ من توحيد الألوهية. ثم إن توحيد الربوبية مركوز في الفطر كلها، فلو كان هو الغاية لما كان هناك حاجة من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
وللإيمان بالربوبية آثار عظيمة، وثمرات كثيرة، فإذا أيقن المؤمن أن له ربًّا خالقًا هو الله تبارك وتعالى، وأن هذا الربّ هو ربّ كلِّ شيءٍ ومليكُه وهو مصرف الأمور، وأنه هو القاهر فوق عباده، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات والأرض أَنِسَت رُوحُه بالله، واطمأنت نفسه بذكره، ولم تزلزله الأعاصير والفتن، وتوجه إلى ربّه بالدعاء، والالتجاء، والاستعاذة، وكان دائمًا خائفًا من تقصيره، وذنبه؛ لأنه يعلم قدرة ربّه عليه، ووقوعه تحت قهره وسلطانه، فتحصل له بذلك التقوى، والتقوى رأس الأمر، بل هي غاية الوجود الإنساني. ولهذا قال النبيّ (صلى الله عليه وسلّم): "ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا".
ومن ثمراته أن الإنسان إذا علم أن الله هو الرزاق، وآمن بذلك، وأيقن أن الله بيده خزائن السماوات والأرض، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قطع الطمع من المخلوقين، واستغنى عمّا بأيديهم، وانبعث إلى إفراد الله بالدعاء والإرادة والقصد.
------------------------------------------------------------------------------------------------------
أهم المصادر:
أولًا: القرآن الكريم.
ثانيًا: المصادر الأخرى:
- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (224 - 310)، "جامع البيان في تفسير القرآن للطبري"، المحقق: مكتب التحقيق بدار هجر. الناشر: دار هجر. الطبعة: الأولى، عدد الأجزاء: 26.
- اللالكائي، هبة الله بن الحسن بن منصور (1402ه)، "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة"، الناشر: دار طيبة - الرياض، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان.
- البيهقي، أحمد بن الحسين (1401ه)، "الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث"، الناشر: دار الآفاق الجديدة – بيروت، الطبعة: الأولى. تحقيق: أحمد عصام الكاتب.