لا شك في أنَّ للقرآن وجوهًا متعدّدة في الإعجاز وإن كان أولها إعجازه في نظمه اللّغوي المتفرِّد الذي تحدَّى به اللَّه سبحانه وتعالى العرب الذين كانوا يعيشون في بيئة بضاعتها الكلمة وربحها التفنُّن في البيان ونظم الحروف. إن لبنات القرآن جميعها مُحْكَمة في لفظها ولغتها ونظمها، وكيفما نظرت إليها فهي شديدة الإحكام، وإن كل آية بل كل كلمة قد وضعها اللَّه تعالى بميزان دقيق وإحكام متقن لا تتقدّم عنه ولا تتأخّر.
ولكن النسيج الرقمي القرآني يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فكل حرف، بل كل نقطة على أي حرف من حروفه لها نظام معجز، ولها دلالة واضحة تتفاعل مع المعنى الذي ترمي إليه الكلمة، كما أن رسم كلماته وطريقة لفظها تقوم على نظام رقميّ عجيب. بل والأعجب منه أنك إذا تدبَّرت تأمّل كلمات القرآن وتأمّلت موقعها من الإعراب وحالة حروفها ومواضع مخارجها وكيفيّة نطقها وحظها من المدّ والتفخيم والقلقلة والإمالة والترقيق والإدغام والغنّة والإقلاب، وغير ذلك من الصفات والأحكام، تجد في ذلك كلّه تناسقًا رقميًّا عجيبًا ونظمًا لغويًّا دقيقًا جدًّا تحتار العقول وهي تتأمّل معانيه ومدلولاته العميقة وتضمحل الأفهام، وهي تتابع مساراته المتشعّبة في أعماق القرآن كلّه لا يعلم مداها إلا الله عزّ وجلّ وحده.. فأنَّى لهذه العقول العاجزة والأفهام القاصرة أن تأتي بمثل جزء يسير جدًّا منه!
تتميّز قراءة القرآن الكريم بأحكام صوتية خاصة، تبعًا لتلاقي الحروف، ومن هذه الأحكام حكم الإدغام، وهو أن يقع بعد النون الساكنة أو التنوين أحد الأحرف الآتية: ي ر م ل و ن، التي تجمعها كلمة "يرملون"، فإن النون الساكنة أو التنوين تدغم بحرف الإدغام فيصيران حرفًا واحدًا مشدّدًا من جنس الحرف الثاني. والإدغام على قسمين: إدغام بغنَّة، وإدغام بغير غنَّة، ولا يكون الإدغام عمومًا إلا في كلمتين، أما إذا جاءت النون الساكنة وأحد أحرف الإدغام في كلمة واحدة فلا إدغام، لما يترتَّب عليه من تغيير في المعنى؛ لذا فإنه لا يوجد إلا في أربع كلمات فقط في القرآن الكريم، وحروف هذه الكلمات الأربع لا تدغم؛ بل يحدث لها حكم آخر يسمى إظهارًا مطلقًا، وهذه الكلمات هي: دنْيا، صنْوان، قنْوان، بنْيان.
بُنْيان
فتأمّل معي عجائب إحصاء أولى هذه الكلمات الأربع..
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِيْنَ (109) التوبة
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيْبَةً فِي قُلُوْبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوْبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ (110) التوبة
قَدْ مَكَرَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُوْنَ (26) النحل
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُوْنَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِيْنَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجدًّا (21) الكهف
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوْهُ فِي الْجَحِيْمِ (97) الصافات
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِيْنَ يُقَاتِلُوْنَ فِي سَبِيْلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوْصٌ (4) الصف
تأمّل..
مجموع كلمات هذه الآيات = 113
وهذا عدد أوّليّ أصم لا يقبل القسمة إلا على نفسه أو على الرقم واحد (بنيان)!
مجموع أرقام هذه الآيات = 367
وهذا عدد أوّليّ أصم لا يقبل القسمة إلا على نفسه أو على الرقم واحد (بنيان)!
تكرّرت كلمة "بنيان" في القرآن 7 مرّات!
وهذا عدد أوّليّ أصم لا يقبل القسمة إلا على نفسه أو على الرقم واحد (بنيان)!
تأمّل كيف يوظِّف القرآن خصائص الأعداد بما يتوافق مع معنى الكلمة ومضمونها!
صِنْوَان
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) الرَّعد
رقم الآية 4.. ورقم الآية الأخيرة التي وردت فيها كلمة بنيان 4
وعدد كلمات الإظهار المطلق في القرآن 4 أيضًا!
قِنْوَانٌ
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُوْنَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ اْنظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ (99) الأنعام
عدد كلمات الآية 44
لاحظ التشابه بين الآية الأولى، وآية صنوان كل منهما 27 كلمة!
فلماذا 27؟
آخر 27 سورة في القرآن لم يرد فيها أي من هذه الكلمات الأربع!
الأعجب من ذلك كلّه أن مجموع ترتيب آخر 27 سورة في القرآن هو 2727
تأمّل..
ترتيب كلمة "بنيان" في الموضعين بالآية الأولى 3 + 13 = 16، أي 4 × 4
كلمة "دنيا" وردت في القرآن 115 مرّة، والمرّة الأخيرة وردت في الآية الآتية:
بَلْ تُؤْثِرُوْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) الأعلى
رقم الآية 16، أي 4 × 4
عدد كلماتها 4 كلمات، وعدد حروفها 20 حرفًا أي 4 × 5
ليس هذا فحسب!!
هناك 272 آية من بعد هذه الآية حتى نهاية المصحف، وهذا العدد هو 4 × 4 × 17
هذه الآية من بداية المصحف ترتيبها رقمها 5964، وهذا العدد = 4 × 1491
رقم أوّل آية وردت فيها كلمة "دنيا" ترتيبها رقم 92 من بداية المصحف، وهذا العدد = 4 × 23
وردت كلمة دنيا لأوّل مرّة في الآية:
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُوْنَ فَرِيْقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُوْنَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوْكُمْ أُسَارَى تُفَادُوْهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُوْنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُوْنَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّوْنَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ (85)
جاءت كلمة الدنيا بعد 176 حرفًا من بداية الآية، وهذا العدد = 4 × 44
جاء بعد كلمة الدنيا 49 حرفًا، وهذا العدد هو عدد كلمات الآية، وهو يساوي 7 × 7
7 عدد أوّليّ ترتيبه في قائمة الأعداد الأوّليّة رقم 4
تأمّل..
تتشكّل كلمة "الدنيا" من 5 أحرف هجائية:
حرف الألف، وترتيبه في قائمة الحروف الهجائية رقم 1
حرف اللّام، وترتيبه في قائمة الحروف الهجائية رقم 23
حرف الدال، وترتيبه في قائمة الحروف الهجائية رقم 8
حرف النون، وترتيبه في قائمة الحروف الهجائية رقم 25
حرف الياء، وترتيبه في قائمة الحروف الهجائية رقم 28
هذه هي أحرف "الدنيا" مجموع ترتيبها الهجائي = 85، وهذا هو رقم أوّل آية يرد فيها لفظ "الدنيا"!
تأمّل هذا الميزان:
إَنَّ الَّذِيْنَ لَا يَرْجُوْنَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِيْنَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُوْنَ (7) يونس
الآية رقمها 7، وكلمة الدنيا تقسمها نصفين متساويين تمامًا.. 7 كلمات قبلها، و7 كلمات بعدها!!
ولا تنسَ أن أوّل آية وردت فيها كلمة "الدنيا" في المصحف عدد كلماتها 49، وهذا العدد = 7 × 7
تخيَّل هذه الدنيا بدون وسطيَّة الإسلام، كيف يمكن لها أن تكون!
غابة متشابكة من الصراعات، وهيمنة متصاعدة لشريعة الغاب!
ومحيط هادر من الشر بلا قطرة من الخير!
-------------------------------------------------------------
المصدر:
مصحف المدينة المنَّورة برواية حفص عن عاصم (وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة).