في حياتنا العادية حينما يكون المرء متفرِّدًا في دينه وأخلاقه، أو ومتميِّزاً في علمه وثقافته، أو ومبرِّزًا في مجال تخصُّصه.. حينما يكون المرء هكذا يحترمه الناس أيَّما احترام ولا ينادونه إلا واسمه مقترن بصفة محمودة بين أفراد مجتمعه يعبِّرون بها عن هذا الاحترام.. هذا بالنسبة إلى جميع بني البشر؛ فكيف يكون الحال لو كان الأمر مع سيد البشر؟!
لقد نهانا اللَّه تبارك وتعالى عن مناداة النبي -صلى الله عليه وسلّم- باسمه المجرد مطلقًا، كما ينادي الناس بعضهم بعضًا، حيث جاء في صدر الآية 63 من سورة النور: (لَا تَجْعَلُوْا دُعَاءَ الرَّسُوْلِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا). وقد التزم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلّم- الأدب في مناداته، ولذلك تجدهم ينادونه: يا رسول اللَّه ويا نبي اللَّه، أو يا أيها النبي ويا أيها الرسول، وتجد ذلك كثيرًا جدًّا في الأحاديث والسيرة النبوية.
وعلّمتنا المنظومة الإحصائية القرآنية أن للأرقام في القرآن معنًى، كما أن للألفاظ معنًى، وكما تلاحظ فقد جاء هذا الأمر في الآية التي رقمها 63، بما يماثل عدد أعوام عمر النبي -صلى الله عليه وسلّم-، وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن الأمر بعدم مناداته باسمه المجرّد في حياته وبعد وفاته أيضًا، وتلك ميزة ميّزه اللَّه بها عن سائر أنبيائه ورسله.
أما أتباع الرسل السابقين، فقد كانوا ينادون رسلهم بأسمائهم المجرّدة، فتأمّل مناداتهم لموسى -عليه السلام-:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55) البقرة
وتأمّل مناداتهم لعيسى -عليه السلام- :
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ .. (112) المائدة
وبما أن القرآن العظيم هو الكتاب الكامل الذي لا تجد فيه تناقضًا ولا اختلافًا، فقد التزم تمامًا بهذا المبدأ، ولذلك لم يرد في القرآن مطلقًا نداء النبي -صلى الله عليه وسلّم- باسمه المجرّد. لقد أثنى اللَّه عزّ وجلّ على رسله وأنبيائه، وناداهم بقوله: (يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ)، و(يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ)، و(يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)، و(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)، و(يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى)، و(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)، و(يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، و(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)، وهكذا فقد نادى اللَّه عزّ وجلّ جميع أولي العزم من الرسل بأسمائهم، إلا النبي مُحمَّدًا -صلى الله عليه وسلّم- لم يناده باسمه قط، بل ناداه: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يَا أَيُّهَا المُزَّمِّل ويَا أَيُّهَا المُدَّثِّر)، تنويهًا بفضله، ورفعة منـزلته على سائر منازل الأنبياء والمرسلين -صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين-. وحتى عندما جاء النبي -صلى الله عليه وسلّم- من جملة الرسل ناداهم مجتمعين بهذا النداء (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ): يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوْا مِنَ الْطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوْا صَالِحًا إِنِّيْ بِمَا تَعْمَلُوْنَ عَلِيْمٌ (51) المؤمنون
وإذا تأمّلت القرآن الكريم تجد أن اللَّه عزّ وجلّ خاطب 8 من أنبيائه بأسمائهم، منهم 4 من أولي العزم، و4 من غير أولي العزم، وأكثر الأنبياء الذين خاطبهم اللَّه عزّ وجلّ بأسمائهم موسى -عليه السلام-، حيث خاطبه اللَّه عزّ وجلّ بلفظ (يا موسى) في 11 موضعًا من القرآن الكريم!
نداء اللَّه لأنبيائه بأسمائهم:
م |
صيغة النداء |
عدد النداءات |
1 |
يَا آدَمُ |
4 |
2 |
يَا عِيسى |
3 |
3 |
يَا مُوسَى |
11 |
4 |
يَا نُوحُ |
2 |
5 |
يَا إِبْرَاهِيمُ |
2 |
6 |
يَا زَكَرِيَّا |
1 |
7 |
يَا يَحْيَى |
1 |
8 |
يَا دَاوُودُ |
1 |
المجموع |
25 |
تأمّل..
هناك 25 نداءً في القرآن للأنبياء بأسمائهم بعدد الأنبياء الذين ذُكرت أسماؤهم في القرآن!
وخلافًا للرسل والأنبياء هناك نداء خاص في القرآن موجّه إلى ذي القرنين، في الآية الآتية:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيْهِمْ حُسْنًا (86) الكهف
هذه الآية ترتيبها رقم 25 من نهاية سورة الكهف وعدد كلماتها 25 كلمة!
25 هو عدد نداءات اللَّه عزّ وجلّ للأنبياء بأسمائهم!
25 هو عدد الأنبياء الذين ذكرت أسماؤهم في القرآن!
وكقاعدة عامة فإن كل نبي ورد اسمه في القرآن فهو رسول أيضًا!
النداء الأوّل
تأمّل هذا النداء اللّطيف الذي استهلّت به هذه الآية:
يَا أَيُّهَا الرَّسُوْلُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِيْنَ يُسَارِعُوْنَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِيْنَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوْبُهُمْ وَمِنَ الَّذِيْنَ هَادُوا سَمَّاعُوْنَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُوْنَ لِقَوْمٍ آخَرِيْنَ لَمْ يَأْتُوْكَ يُحَرِّفُوْنَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُوْلُوْنَ إِنْ أُوْتِيْتُمْ هَذَا فَخُذُوْهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوْبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ (41) المائدة
هذه الآية تتضمن أوّل نداء مباشر من اللَّه عز وجل إلى عبده ورسوله مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم-.
أوّل ملاحظة أن الآية جاءت بعد 40 آية من بداية السورة!
من هذه الآية وحتى نهاية السورة هناك 80 آية، وهذا العدد = 40 + 40
وقد أُوحي إلى النبي -صلى الله عليه وسلّم- في عمر 40 سنة!
رقم الآية 41 بعدد تكرار حروف اسم مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- في الحروف المقطعة!
لفظ (الرسول) في هذه الآية يأتي بعد 1000 كلمة من بداية السورة، وهذا العدد = 40 × 5 × 5
الرقم 5 هو ترتيب سورة المائدة، وهو عدد أركان الإسلام أيضًا!!
عدد كلمات هذه الآية 68 بكلمة بعدد تكرار لفظ "قرآن" في القرآن!
من سورة مُحمَّد وحتى نهاية المصحف 68 سورة!
أي أن سورة مُحمَّد هي السورة التي ترتيبها رقم 68 من نهاية المصحف!
العدد 68 يساوي 4 × 17
4 هو تكرار اسم "مُحمَّد" في القرآن!
17 هو ترتيب اسم "مُحمَّد" من بداية سورة مُحمَّد!
القدوة والنبراس
تأمّل هذه الآية من سورة الأحزاب:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا (56) الأحزاب
الرسول الوحيد الذي وردت في حقه هذه الآية هو مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم-، فمن تعظيم شأنه أن اللَّه عزّ وجلّ وملائكته قد صلّوا عليه، وأمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليه. ولم تكن هذه لأي أحد من البشر، ولذلك كان النبي مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- أكثر الخلق حظًا من الذكر والثناء الحسن من اللَّه عزّ وجلّ وملائكته والمسلمين منذ نزول هذه الآية حتى قيام الساعة، ولذلك قال اللَّه عزّ وجلّ في شأنه: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) الشرح.
وما يعكس تعظيم اللَّه عزّ وجلّ لعبده ونبيه مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- أن جعل العديد من الآيات القرآنية تتوجّه بالخطاب إليه نفسه، لأنه هو القدوة والنبراس، فهو أكثر من خاطبه ربه خطابًا صريحًا مباشرًا في القرآن الكريم، أو تحدّث عنه حديثًا واضحًا بيِّنًا، بما يقصده به، وبما يقصد به المؤمنين أيضًا، فكأنه -صلى الله عليه وسلّم- محل نظر اللَّه الأوَّل. وبالفعل، فقد جاء ذلك صريحًا في قوله عزّ وجلّ وهو يواسيه: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِيْنَ تَقُوْمُ (48) الطور
القائد الرحيم
في العام الثامن من الهجرة قرر محمدٌ -صلى الله عليه وسلّم- فتح مكَّة، وحرص على كتمان هذا الأمر حتى عن أقرب الناس إليه، وسار بجيش قوامه عشرة آلاف مقاتل نحو مكة عبر مسالك وطرقات وعرة لم يعهدها الناس من قبل، وكل ذلك من حرصه على دخولها من غير إراقة دماء. وبينما الجيش يتحسس طريقه بين المسالك الوعرة عبر الوديان اعترضت طريقهم كلبة ترضع صغارها، فخشى نبي الرحمة أن يفزعها الزاحفون، فأمر الصحابي الجليل جُعيل بن سراقة أن يقوم حذاءها؛ وأن يغير الجيش بالكامل مساره رغم وعورة الطريق، ورغم ما ينطوي على هذا القرار من متاعب، وكل ذلك حتى لا يتعرَّض لها أحد من الجيش ولا لأولادها بأذى!
يا للعجب! أي قائد أنت وأي عظمة هذه وأي رحمة تلك! يتغير مسار جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل من أجل كلبة وصغارها! هل عرف التاريخ كله نموذجا للرحمة مثل هذا؟! لقد عرفت البشرية الكثير من القادة العظماء الذين غيَّروا بانتصاراتهم العسكرية الباهرة مسار التاريخ، ولكن لا أحد منهم جمع بين العبقرية والحكمة والرحمة والعدل، في الحرب والسلم، إلَّا القائد الأعظم والإنسان الكامل مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم-.
ولذلك لم يَضْفِ المولى عزّ وجلّ أيًا من صفاته على أحد من خلقه غير مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم-.. فاللَّه هو الرؤوف الرحيم، وقد وصفه بأنه رؤوف رحيم، فتأمّل آخر آيتين من سورة التوبة:
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) التوبة
مجموع حروف هاتين الآيتين = 114 حرفًا بعدد سور القرآن!
مجموع رقمي الآيتين 257، وهذا العدد = 114 + 114 + 29
114 هو عدد سور القرآن و29 هو مجموع كلمات الآيتين!
مجموع رقمي الآيتين + عدد كلماتها = 286، وهذا هو عدد آيات أطول سورة في القرآن!
وهكذا فقد اختص اللَّه عزّ وجلّ مُحمَّدا -صلى الله عليه وسلّم- بما لم يختص به أحدًا من أنبيائه ورسله.
وأعطاه ما لم يعط أحدًا من أنبيائه ورسله.. هذا القرآن العظيم!
-------------------------------------------------------------------
المصدر:
مصحف المدينة المنَّورة برواية حفص عن عاصم (وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة).