الوصول إلى الله هدف لا يتنازل عنه أصحاب الفطرة السليمة..
بعضهم يسير في الطريق عشرات السنين ويحاول الوصول..
يتأمل.. يدرس.. يسافر.. يسأل.. فيستدل على الطريق..
بطل قصتنا من هؤلاء البشر أصحاب الفطر السليمة، فطرته حددت له وجهته منذ طفولته، بينما حادثة أليمة غيَّرت مسار حياته حتى مماته.. شكوكه في النصرانية أغرقته في بحور من الخمر وأجلسته على تلال من المخدرات، بينما صداقة طيبة غيّرت قناعاته رأسًا على عقب وارتقت به إلى أعلى الدرجات.. إنه الأكاديمي ستيف جونسون.. أستاذ التاريخ بجامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية وبطل هذه القصة.
ولد ستيف وترعرع في أحضان أسرة كاثوليكية.. فطرته السليمة كانت تدفعه في طفولته إلى الجلوس تحت ظل شجرة كبيرة في مزرعة والده، ليس لكي يلعب كما هو الحال مع نظرائه من الأطفال وإنما ليتأمل في خلق الله سبحانه وتعالى ويتدبر في آياته الكونية الباهرة ويتساءل عن حقيقة الله الذي خلق فسوى، ويتمنى من كل قلبه أن يصبح في كبره من عباده المخلصين.
تأمّلات ستيف العميقة ورغبته الصادقة في تحقيق المزيد من القرب من الله تعالى جعلته يقضي أكثر من عقدين من عمره في تحولات نفسية كبيرة لتحقيق هدفه النبيل، أعانه على ذلك نهم جارف في تلقي المعارف والعلوم، ورغبة قوية في اعتزال الآخرين الأمر الذي جعله يستنفد الساعات الطوال في القراءة والاطلاع حتى صار من أوائل التلاميذ في مدرسته.
عندما وصل الصف الدراسي الثامن توفيت جدته.. وأثناء توجهه لحضور جنازتها تعرض لحادثة سيارة أصابته بضرر بالغ في رأسه نتج منه انقطاع الإحساس في النصف الأيسر من جسده، فضلًا عن فقدانه حاسة السمع في أذنه اليمنى.. تسببت تلك الحادثة في تغيير شامل في حياة ستيف إذ نذر حينها أن يهب كل حياته عابدًا مخلصًا كنصراني كاثوليكي آنذاك.
حرمت تلك الحادثة بطل قصتنا من ممارسة الأنشطة الرياضية لكنها أفادته في توظيف معظم أوقات حياته في القراءة والدرس.. ولتحقيق نذره قرر ستيف في البدء الالتحاق بالكنيسة كراهب.. وعندما علم أن الكنيسة في حاجة إلى أطباء ثابر في الحصول على درجة علمية في الكيمياء وعلم النفس تؤهله لدخول كلية الطب.
لتحقيق هدفه المرحلي المتمثل في دخول كلية الطب اجتهد ستيف في عامه الأول، بل أحرز المركز الأول على زملائه.. شغفه بالفلسفة واللاهوت سيطر على تفكيره حتى أصبح أقل ميلًا إلى دراسة الطب، لكن تم ترشيحه لدراسة هذا العلم فشعر بأن الأمر هو تخطيط من الله.
أصبح وقته متنازعًا بين دراسة العلوم الطبية، والاطلاع على كتب الفلسفة، واللاهوت والصلاة والتعبد في الكنيسة، فضلًا عن خدمة الكنيسة المحلية.. لكنه سرعان ما بدأ يشعر بالملل والاكتئاب، وبالكره الشديد للدراسة.. الفطرة السليمة التي كانت تلازمه في طفولته بدأت تستيقظ في داخله وترفده بالكثير من الشكوك حول حقيقة ما كان يؤمن به طوال سنوات عمره.
الصراع النفسي الرهيب بين شكوكه في النصرانية والتزامه بها دفعه إلى أن يدفن نفسه في عالم الخمر والمخدرات عسى غيبوبتيهما تتكرمان عليه بالنسيان.. بيد أنه فشل في مسعاه وتحولت حياته إلى جحيم دفعه إلى ترك دراسة الطب.. أبلغ الكنيسة برغبته في التفرغ للرهبنة والفلسفة علهما يسهمان في تعميق إيمانه الذي شعر به يهتز ويضعف.
قضى ستيف عامين كاملين في أبرشية تابعة للكنيسة كمعلم دين إلى جانب تطوعه بالخدمة في السجون، فضلًا عن مواصلته في دراسة اللاهوت والفلسفة.. كان يأمل أن يفيده كل ذلك في استرجاع إيمان بدأ يفقده.. لكنه ظل يعيش حياة متناقضة ومقسمة بين انقطاع للعبادة نهارًا، وغرق في بحور الخمر والمخدرات طوال الليل.
حدثت نقطة تحول كبرى في حياة ستيف حينما طلبت منه الكنيسة أن يحدد المدرسة اللاهوتية التي يرغب في التعلم بها.. سافر حينها إلى أوروبا ثم تنقل بين تورنتو التي نال فيها درجة في الفلسفة، وجامعة إنديانا التي نال فيها درجة في الفلسفة والدراسات الدينية والتربية.. وفي هذه المحطة الأخيرة -أي جامعة إنديانا- بلغ من الشك قمّته.. لم يعد يؤمن بما يدرسه بل كفر بكل ما ظل يمارسه طوال حياته من طقوس تعبدية.. وعلى الرغم من كل ذلك كان متفوقًا في دراسته بدرجة أهّلته للحصول على شهادات زمالة ومنح أكاديمية في جامعات أخرى.. وكان كلما ازداد تفوقًا في حياته الأكاديمية تنامت شكوكه وازداد شعوره باحتقاره لذاته.
فجأة وبلا مقدّمات ظهرت في حياته بارقة أمل جديدة لاحت له وسط ضباب التشتت وعواصف الضياع.. تمثلت بارقة الأمل في شاب عربي مسلم من إمارة أبوظبي يدعى إسماعيل حسان سعيد دخل حياته بتدبير من الله تعالى.. التقى ستيف هذا الشاب العربي المسلم، الذي شرح له بعض حقائق الإسلام ما جعله يفكر في زيارة المسجد في يومه التالي.. وقدر للصديقين أن يزورا دنفر وكولورادو في إجازة، الأمر الذي قاد إلى توطد أواصر الصداقة بينهما، حتى تشاركا السكن.. لاحظ ستيف أن صديقه المسلم يؤدي صلواته الخمس في أوقاتها بانتظام، كما لاحظ أنه يداوم على قراءة القرآن الكريم.. فضلًا عن ذلك رأى فيه القدوة الحسنة.. كان ستيف لا يفتأ يشاهد إسماعيل وهو ينتهي من أداء نسكه حتى يبادره بسؤال عن الإسلام ولما كان الأخير على علم بأصول الدعوة، لم يدعه مباشرة إلى الدخول في الدين الإسلامي إذ كان يكتفي بالإجابة على قدر السؤال.
من خلال صديقه المسلم ظل ستيف يتعرف في كل يوم إلى شيء جديد من الدين الإسلامي الحقيقي، ما جعل الصورة السلبية المزيفة التي غرستها الكنيسة في ذهنه عن الإسلام تبهت وتتغير يومًا بعد يوم.
بحلول عام 1981م التحق ستيف بدورة دراسية عن الإسلام نظمها أحد المستشرقين.. وبعد مرور ثلاثة أشهر من تلك الدورة أعطاه صديقه كتابًا للأحاديث القدسية.. وما أن بدأ ستيف في قراءة الكتاب حتى شعر برعشة شديدة تسري في جسده، وببرودة أشد تسري في أوصاله وصلت حدًّا جعلت صديقه المسلم يغطيه بالأغطية الثقيلة، ولكن محال أن تزيل هذه الأغطية برودة روحه التي تتطلّع إلى دفء الحياة الحقيقي المتمثل في الإيمان بالإله الحق الواحد الأحد.
وما أن دخل شهر نوفمبر من عام 1981م حتى تأكد لستيف أنه توصل إلى ما قضى عمره يبحث عنه، وأنه قد ولد من جديد، فخرج الكفر من حياته دفعة واحدة فنطق بالشهادتين معلنًا دخوله الإسلام بإيمان قوي لم تقلل من قوته وعنفوانه اللغة العربية الضعيفة التي خرجت من شفتيه اللتين كانتا ترتجفان من الفرح وعينيه اللتين كانتا تنهمران بالدمع.
ونختتم هذه القصة بالإشارة إلى التحول الجذري الذي آلت إليه حياة ستيف عقب دخوله الإسلام فقد هجر المخدرات والخمر، وسخّر نفسه لخدمة الدعوة الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية.. ويحرص على القدوة الحسنة كأسلوب فعال من أساليب الدعوة لأنها هي التي أسهمت في هدايته إلى الإسلام عبر صديقه العربي المسلم، ولأنه كان يعلم علم اليقين أن الشباب الأمريكي يمكنه أن يعتنق الإسلام إن وجد القدوة التي تقدم له الإسلام في جوهره الحقيقي النقي، حيث يقول المثل الأمريكي: "لا تقل لي ولكن أرني".. وإلى جانب عمله الدعوي ظل ستيف يمارس حياته الوظيفية أستاذًا في جامعة إنديانا، حيث يفخر طلابه وزملاؤه بأخلاقه الإسلامية وسلوكه السوي الذي يؤهله لكي يكون قدوة إسلامية يحتذى بها..
وهذا هو جوهر الدين الحق.. جوهر الإسلام..
لا كهنوت.. لا رهبانية.. لا عزلة.. بل سلوك ومعاملات يغلفها الإيمان..
سلوك يدعو إلى الإسلام بلا كلمة واحدة.. بل مثال وقدوة..
لذا.. أسلموا واكتسبوا لأنفسكم قبل غيركم.. نمط حياة راقيًا نقيًّا تقيًّا..
الرابح أنت.. لا الإسلام..
اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.
--------------
المصدر:
الألفي، أسامة (2005)؛ لماذا أسلموا؟ القاهرة: أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي.