عندما ترى النور لا تجزم بالوصول!!
بلوغ الإيمان وكماله هو فضل من الله وحده..
إذا رأيت النور.. لا يكفي.. سر في الطريق إليه.. اجتهد..
لا يغرك المتاع الزائل.. ولا يرهبك الناس..
كثيرة هي ألاعيب الشيطان التي يسوقها لمن يحاول الاقتراب من الحق..
يزين له نعيم الدنيا.. يخوفه من المصير في الدنيا..
من رضي الله عنهم وأراد لهم الخير.. لا يلتفتون إليه..
من ضعفت عزيمتهم.. وانشغلوا بالدنيا ينساقون وراء الألاعيب..
هذا حال بطل قصتنا وأستاذه الذي أوضح له طريق الإسلام..
بطل قصتنا تعلَّم الكهنوت منذ نعومة أظفاره فكانت هدايته على يد قس كبير في السن والمقام!! هو الذي أقنعه بالإسلام بعد أن اقتنع هو ولكنه لم يسلم حرصًا منه على الحفاظ على عرض دنيوي أغدقت به عليه الكنيسة فخسر الآخرة التي طلب من بطلنا لهذه القصة أن يحرص عليها بدخول الإسلام.
ضيفنا في هذه الحلقة كان قسيسًا نصرانيًّا، عاش في جزيرة "ميورقا" التي تقع في الطرف الجنوبي الشرقي من إسبانيا، وتعلم فيها الإنجيل وبلغ منزلة عظيمة في الديانة النصرانية.. وعندما بلغ عمره 35 سنة هيّأ الله له حادثة مفاجئة أحدثت انقلابًا جذريًّا في عقيدته، فخرج من بلده باحثًا عن الإسلام والمسلمين. فأسلم وحسن إسلامه، وألّف لنا كتابًا رائعًا سمّاه "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب"، وقد سلك مسلكًا فريدًا في إبطال عقائد النصارى من أناجيلهم والرد عليهم ردًّا عقليًّا مفحمًا، لأنه أعلم بالداء وأدرى بالدواء، فكان حريًّا بإفحام عالمهم وإفهام جاهلهم.. فكم هي ممتعة كتابات النصارى الذين أسلموا.. وما بالك إن كانوا علماء في دينهم.. لكن الأكثر إمتاعًا عندما يتصدون لعلماء دينهم السابق، يبيّنون باطلهم ويفنّدونه، دافعين عن الإسلام كل باطل وسوء.
ضيفنا هذا هو أبو محمد عبدالله بن عبدالله الترجمان، وقد كان يدعى قبل إسلامه "أنسلم تورميدا" وينسب إلى بلده "ميورقا" وهي جزيرةٌ تقع في الطرف الجنوبي الشرقي من إسبانيا -بلاد الأندلس سابقًا- عاش في القرن التاسع، تعلم في صغره علوم الكهنوت في دير بوبليت ثم أخذ يتنقل في البلاد يتعلم المسيحية حتى استقر به المقام في إيطاليا في مدينة بولونيا التي كانت عاصمة علم عند النصارى فتعلم على قس من كبار علماء النصارى في زمانه فتلقى منه العلم خلال عشر سنوات أقامها عنده. ولأهمية قصة إسلامه فقد أثبتها لنا في مقدمة كتابه "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب"، التي سوف نختصرها لكم بتصرّف بين طيّات هذا المقال..
في سياق حديثه عن نفسه يقول صاحب "تحفة الأريب": سكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم كبير القدر اسمه: "نقلاومرتيل" وكانت منزلته فيهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جدًّا انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية فكانت الأسئلة في دينهم ترد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه ولم أزل أتقرب إليه بخدمتي له وتقربي منه إلى أن دفع إليّ مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله ومشربه وصيّر جميع ذلك كلّه على يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدى إليه، والله أعلم.
يقول عبدالله الميورقي: فلازمت هذا القسيس من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين ثم أصابه مرض يومًا من الدهر، فتخلّف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عزّ وجلّ على لسان نبيه عيسى في الإنجيل: "أنه يأتي من بعده نبي اسمه البارقليط".. فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم وكثر جدالهم ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة في تلك المسألة.
يقول: فأتيت مسكن القسيس صاحب الدرس المذكور، فقال لي: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم "البارقليط"(*) وأن فلانًا قد أجاب بكذا وفلانًا قد أجاب بكذا.. وسردت له أجوبتهم فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل، فقال لي: ما قصرت، وقربت، فلان أخطأ، وكاد أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله لأن تفسير هذا الاسم الشريف من العلم القليل، فبادرت إلى قدميه أقبلهما، وقلت له: يا سيدي قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد ولي في خدمتك عشر سنين، حصّلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنوا عليّ بمعرفة هذا الاسم.. فبكى القسيس وقال لي: يا ولدي.. والله أنت لتعزّ عليّ كثيرًا من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليّ.. وفي معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك فتقتلك عامة النصارى في الحين، فقلت له: يا سيدي والله العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تسرّه عليّ إلا عن أمرك. فقال لي: يا ولدي إني سألتك في أول قدومك عليّ عن بلدك وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام، فاعلم يا ولدي أن "البارقليط" هو اسم من أسماء نبيهم محمد -صلى الله عليه وسلّم- نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال -عليه السلام- وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملّته هي الملّة البيضاء المذكورة في الإنجيل.
يقول عبدالله الميورقي: قلت له يا سيدي وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ فقال لي: يا ولدي لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله.. ولكن بدلوا وكفروا. فقلت له: يا سيدي "وكيف الخلاص" من هذا الأمر؟ فقال: يا ولدي بالدخول في دين الإسلام. قلت له: وهل ينجو الداخل منه؟ قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة.. فقلت: يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال لي: يا ولدي إن الله تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي أهل الإسلام إلا بعد كبر سني ووهن جسمي ولا عذر لنا فيه، بل هو حجّة الله علينا قائمة ولو هداني وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز والترف وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر عليّ شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت.. وهب أني نجوت منهم، وخلصت إلى المسلمين فأقول لهم: إني جئتكم مسلمًا، فيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق فلا تمنّ علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله فأبقى بينهم شيخًا كبيرًا فقيرًا ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعًا وأنا والحمد لله على دين عيسى وعلى ما جاء به، يعلم الله ذلك مني.
يقول عبدالله الميورقي: فقلت له يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ فقال لي: إن كنت عاقلًا طالبًا للنجاة فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني فإني أجحده، وقولي مصدق عليك وقولك غير مصدق علي، وأنا بريء من ذلك إن فهت بشيء من هذا. فقلت: يا سيدي أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا وعاهدته بما يرضيه.
ثم أخذت في أسباب الرحلة وودّعته فدعا لي عند الوداع بخير، وزودني بخمسين دينارًا ذهبًا وركبت البحر منصرفًا إلى بلدي مدينة ميورقة فأقمت بها خمسة أشهر وأنا أنتظر مركبًا يتوجه إلى أرض المسلمين.. فحضر مركب يسافر إلى مدينة تونس فسافرت فيه من صقلية وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق فوردنا مرسى تونس قرب الزوال.
فلما نزلت بديوان تونس وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى أمروا بمركب وحملوني معهم إلى ديارهم، وصحبت بعض التجار الساكنين أيضًا بتونس فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد، فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلًا فاضلًا من أكبر خدامه اسمه يوسف الطبيب وكان طبيبه ومن خواصه ففرحت بذلك فرحًا شديدًا.
سألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب فدللت عليه واجتمعت به وذكرت له شرح حالي وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فسر الرجل بذلك سرورًا عظيمًا بأن يكون تمام هذا الخير على يديه، ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان ودخل عليه فأخبره بحديثي واستأذنه لي فأذن لي.
فمثلت بين يديه فأوّل ما سألني السلطان عن عمري فقلت له: خمسة وثلاثون عامًا، ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته، فقال لي قدمت قدوم خير، فأسلم على بركة الله، فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور-: قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد من دين إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه فأرغب في إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي وحينئذ أسلم إن شاء الله تعالى، فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب عبدالله بن سلام من النبي -صلى الله عليه وسلّم- حين أسلم.
ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم، وأدخلني في بيت قريب من مجلسه فلما دخل النصارى عليه، قال لهم: ما تقولون في القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ قالوا له: يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا، وقال علماؤنا إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين، فقال لهم: وما تقولون فيه لو أسلم؟ قالوا: نعوذ بالله من ذلك هو ما يسلم أبدًا.. فلما سمع ما عند النصارى بعث إليّ فحضرت بين يديه وشهدت شهادتي الحق بمحضر النصارى فصلبوا على وجوههم وقالوا ما حمله على ذلك إلا حب التزويج فإن القسيس عندنا لا يتزوج وخرجوا مكروبين محزونين (**).
سبحان الله!!.. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.. كم هو محظوظ بطل قصتنا الذي سخّر له الله تعالى أحد كبار القساوسة المسيحيين ليهديه إلى طريق الإسلام إذ تحول مرة واحدة في نهاية عمره من أحد المنصرين الذين يبشرون بتعاليم المسيحية إلى داعية قدّر له الله أن يهدي أحد تلاميذه إلى دخول الإسلام وإن عجز هو عن فعل ذلك.
فسبحان الهادي إلى الإيمان به.. برحمته..
يسخر غير المهتدي ليكون هاديًا إلى الله..
إنها من عجائب الإيمان..
لذا فلتسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.
--------------------------------------------------
المصدر:
الميورقي، أبي مُحمَّد عبد الله الترجمان (1988)؛ تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب؛ دراسة وتحقيق عمر وفيق الداعوق؛ لبنان- بيروت: دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع.
الهوامش:
* البارقليط أو الفارقليط تعريب لكلمة "بيريكلتوس" ومعناها (الذي له حمد كثير) وهو ما يوافق أفعل التفضيل من حمدَ.. وهذه الكلمة كانت موجودة في نسخ إنجيل يوحنا إصحاح 15 عدد 26، وأيضًا في بعض الطبعات القديمة مثل طبعة لندن سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844، لكنها حُرفت في الطبعات الحديثة إلى كلمة "المعزي" وهذا نص ما تم تحريفه: (ومتى جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب).
* * من عجائب النصارى أن القس لا يتزوج ويرون أن الزواج نقيصة في حقه، وفي نفس الوقت ينسبون الولد والزوجة إلى الله سبحانه وتعالى!