أنا.. من أين أتيت؟ إلى أين أسير؟ ما الهدف من مجيئي إلى هذه الحياة؟ أتراني خُلقت عبثًا لا هدف من وراء وجودي في هذه الحياة؟ أم أن هناك هدفًا من وراء وجودي؟ كيف أتيت إلى هذه الحياة؟ هل وُجدت مصادفة كما يقول بعضهم؟ وما مدى صدقية هذا الأمر؟ هل تستطيع المصادفة أن توجد كل هذا الجمال والكمال في كل شيء في الكون؟ هل لهذه النظرية نصيب من الصحة في عصر العلم؟ أم أن الطبيعة هي التي أوجدتني كما يقول بعضهم الآخر؟ وما هي تلك الطبيعة؟ ما حقيقتها وما معناها؟ هل تستطيع الطبيعة أن تنفرد بالخلق؟ هل هي شيء واحد أم أشياء كثيرة متعددة ومتنوعة؟ هل لها عقل يدبّر لها أم أنها لا عقل لها؟ وهل يستطيع ما لا عقل له أن يخلق العاقل المفكر؟
أم أن هناك إلهًا خلق كل هذا الكون وأبدع خلقه وأتقنه، ووضع كل شيء في موضعه، بحيث لو لم يكن كل شيء كما نراه الآن لانعدمت الحياة؟ وهل قصد هذا الإله ذلك لنتبين حكمته؟ ونعرف دقته وبديع صنعته؟
وإذا كان هناك إله فهل عرفنا هذا الإله؟ ولماذا خلقنا هذا الإله؟ وماذا يريد منا؟ وهل أمرنا بعبادته؟ وما هي الطريقة التي فعل بها ذلك؟ ولماذا لم يُرِنا هذا الإله نفسه، كي لا يكون عرضة لطعن الطاعنين ولا لإنكار المنكرين؟ وإذا آمنت بوجود الإله؟ فما هي خصائص هذا الإيمان؟ وما هي طريقته؟
ولماذا نحتاج إلى أن يعرِّفنا هذ الإله نفسه؟ هل العقل ليس كافيًا للوصول إليه ومعرفته حق المعرفة؟ وما أسباب عدم كفايته؟ أي طريق من هذه الطرق أتبع؟ هذا كله ما نحاول إيضاحه في الصفحات التالية..
مبدأ السببية:
بنظرة بسيطة.. إذا نظرنا إلى السماء والأرض وجدنا أن المطر يأتي من السحاب، وأن الثمر يحصل من الشجر، وأن الشجر ينبت من الماء والتراب، وأن الماء ينشأ من الأوكسجين والهيدروجين، فلم يشاهد الإنسان منذ فتح عينيه على الوجود أن حادثًا حدث من غير سبب، أو أن شيئًا وُجد من غير موجد، حتى أصبح هذا المعنى -بحكم الواقع القاهر- لا يتصور العقل خلافه، ولا يطمئن إلى غيره.
ولا يرفض هذا المبدأ إلا عقل مريض شأن المعتوهين، أو عقل قاصر شأن الطفل الذي يكسر الإناء، ثم يقول إنه انكسر وحده، وجرت الحوادث أبدًا على هذا القانون، حتى أصبح مبدأً مسلّمًا به في كتب الفلسفة، وسمي (مبدأ السببية) وهو أوّل مبادئ العقل المديرة للمعرفة، لأنه أساس الأحكام العقلية والمحاكمات المنطقية.
إذًا فقولنا لا بد لكل حادث من مُحدث أو لا بد لكل موجود من مُوجد أمر يقيني مسلّم به، ولا يقبل العقل غيره، وبالتالي محال على حادث أن يحدث بذاته أو على شيء أن يوجد بغير مُوجد.
وبناء على هذه القاعدة نقول: إن عالمنا هذا من أرض وجبال وشجر وبشر ودواب وكواكب وشموس لا بد له من مُحدث، فلا بد لهذا العالم من خالق.
ولهذا قال الرجل الأعرابي البسيط "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليل داج ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير".(1)
إبطال أزلية الكون:
إلا أنه قد يقول لنا قائل: إن هذا العالم قديم أزلي (أي أنه لا بداية لوجوده) ولا نهاية له، وهذا الرأي أيضًا أبطله العلم والقوانين الثابتة، فقد أثبت العلم أنه كما أن للإنسان عمرًا فإن للكواكب والمجرات أعمارًا، وأنه سيأتي يوم تنعدم فيه الحياة على سطح الأرض، بل أبعد من ذلك، لقد قالوا إن لهذا العالم بداية زمانية، وهذه القضية قال بها الفلاسفة قديمًا وثبت اليوم خطؤها.
إن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يثبت أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا، فهنالك انتقال حراري مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية، بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة.
ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام، وينضب فيها معين الطاقة، ويومئذ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو طبيعية، ولن يكون هناك أثر للحياة في هذا الكون.
ولما كانت الحياة لا تزال قائمة، ولا تزال العمليات الكيماوية والطبيعية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا؛ وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد، وتوقف كل نشاط في الوجود.
وهكذا توصلت العلوم دون قصد إلى أن لهذا العالم بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله، لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه، ولا بد له من مبدئ أو خالق وهو الإله.(2)
إن ذرات الشموس تتحطم في قلبها المرتفع الحرارة، وبوساطة هذا التحطم الواسع المستمر تتولد هذه الطاقة الحرارية الهائلة، وكما هو معلوم فإن الذرة حين تتحطم تفقد جزءًا من كتلتها، حيث يتحول هذا الجزء إلى طاقة، ومعنى ذلك أن كل يوم يمر على الشمس يعني فقدان جزء ولو يسير من كتلتها، وكذا بقية النجوم.(3)
لقد أمكن العلماء باستخدام العلاقات الإشعاعية وغيرها من الوسائل أن يقدّروا عمر الأرض، وقد قُدّرت بخمسة بلايين سنة، وعلى هذا فإن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا، وهذا يتفق مع القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية، الذي قد سبقت الإشارة إليه.(4)
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل أثبت العلم أن هذا الكون بدأ دفعة واحدة منذ نحو خمسة بلايين سنة، ولا يزال في عملية انتشار مستمر تبدأ من مركز نشأته، واليوم لا بد لمن يؤمنون بنتائج العلوم من أن يؤمنوا بفكرة الخلق أيضًا، وهي فكرة تستشرف سنن الطبيعة، لأن هذه السنن إنما هي ثمرة الخلق أيضًا، ولا بد من أن يسلّموا أيضًا بفكرة الخالق الذي وضع هذه القوانين، فليس من المعقول أن يكون هناك خلق دون خالق.(5)
من كل هذا يتبين لنا أن هذا الكون ليس قديمًا، كما أنه لم ينشأ نشأة ذاتية فلا بد له من موجد أوجده.
أدلة بطلان نظرية المصادفة:
نأتي هنا إلى أولئك الذين يقولون إن هذا العالم نشأ مصادفة، لنبين بالدليل القاطع استحالة ذلك.
ملاءمة الأرض للحياة:
تتخذ ملاءمة الأرض للحياة صورًا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية، فالأرض كرة معلّقة في الفضاء، تدور حول نفسها، فينتج من ذلك تتابع الليل والنهار، وتسبح حول الشمس مرة كل عام، فيكون في ذلك تتابع الفصول، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا، ويزيد اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت الأرض ساكنة.
أما الغلاف الغازي الذي يحيط بالأرض فيشتمل على الغازات اللّازمة للحياة، ويمتد إلى ارتفاع كبير، ويبلغ من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة إلينا.
وكثيرًا ما يسخر بعضهم من صغر حجم الأرض بالنسبة إلى ما حولها من فراغ لا نهائي، ولو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر، أو حتى أن قطرها كان ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي، اللذين يحيطان بها، ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت.
أما لو كان قطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت مساحة سطحها أربعة أضعاف وأصبحت جاذبيتها للأجسام ضعف ما هي عليه، وانخفض تبعًا لذلك غلافها الهوائي، وزاد الضغط الجوي من كيلوجرام إلى كيلوجرامين على السنتيمتر المربع، ويؤثر كل ذلك أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض.
بالإضافة إلى اتساع المناطق الباردة اتساعًا كبيرًا ونقص مساحة الأراضي الصالحة للسكنى نقصًا كبيرًا، وبذلك تعيش الجماعات الإنسانية منفصلة وفي أماكن متنائية، فتزداد العزلة بينها ويتعذر السفر والاتصال، بل قد يصير ضربًا من ضروب الخيال.
ولو كانت الأرض في حجم الشمس مع احتفاظها بكثافتها لتضاعفت جاذبيتها للأجسام، ونقص ارتفاع الغلاف الجوي، وأصبح تبخر الماء مستحيلًا، ولارتفع الضغط الجوي، ولوصل وزن الحيوان الذي يزن حاليًّا رطلًا واحدًا إلى 150 رطلًا، ولتضاءل حجم الإنسان حتى أصبح في حجم السنجاب، ولتعذرت الحياة الفكرية لمثل هذه المخلوقات.
ولو أزيحت الأرض إلى ضعف بعدها الحالي عن الشمس؛ لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس إلى ربع كميتها الحالية، واستغرق دوران الأرض حول الشمس وقتًا أطول، وتضاعف تبعًا لذلك طول فصل الشتاء، وتجمدت الكائنات الحية على سطح الأرض.
ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى ضعف ما هي عليه الآن لتلقت الأرض أربعة أمثال ما تتلقاه من الحرارة ولصارت الحياة على سطح الأرض مستحيلة.
وعلى ذلك فإن الأرض بحجمها وبعدها الحاليين عن كوكب الشمس، وسرعتها في مدارها تهيئ للإنسان أسباب الحياة، والاستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية، على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا.
وبعد كل هذا ندعي نظرية المصادفة!
بطلان نظرية المصادفة من الناحية الرياضية:
النظريات الرياضية تضع أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب، مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم، فهل لنظرية المصادفة أي أسس رياضية سليمة؟
فلنتأمل معًا ما تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة:
البروتينات هي مركبات أساسية في جميع الخلايا الحية، وتتكون من خمسة عناصر هي: الكربون، والأيدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، والكبريت، ويبلغ عدد الذرات في الجزيء البروتيني الواحد 40000 ذرّة.
ولما كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة 92 عنصرًا موزّعة كلها توزيعًا عشوائيًّا، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جزيئًا من جزيئات البروتين، يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطًا مستمرًا لكي تؤلف هذا الجزيء، ثم حساب طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد.
وقد قام عالم الرياضيات السويسري تشارلزيوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعًا، فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد إلا بنسبة واحد إلى عشرة مضروبة في نفسها مئة وستين مرّة، وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات، وتكون كمية المادة اللّازمة لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع لهذا الكون بملايين المرات.
ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تحصى من السنوات، قدّرها العالم السويسري بعشرة مضروبة في نفسها مئتين واثنتين وأربعين سنة!!.
سر الحياة:
وإضافة إلى ذلك، تتكون البروتينات من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية، فكيف تتآلف ذرات هذه الجزيئات؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى غير تلك التي تتآلف بها، تصير غير صالحة للحياة، بل تصير في بعض الأحيان سمومًا، وقد حسب العالم الإنجليزي ج.ب.ليثر الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات، فوجد أن عددها يبلغ البلايين (عشرة مضروبة في نفسها ثمانٍ وأربعين مرة)، وعلى ذلك فإنه من المحال عقلًا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئًا بروتينيًّا واحدًا.
ومع كل هذا فالبروتينات مواد كيميائية عديمة الحياة، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب الذي لا ندري من كنهه شيئًا، إنه العقل اللانهائي، وهو الله وحده، الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته أن مثل ذلك الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقرًا للحياة، فبناه وصوره وأغدق عليه سر الحياة.(6)
كيف لنا أن نفسّر هذه العمليات المعقّدة المنظمة تفسيرًا يقوم على أساس المصادفة والتخطيط العشوائي؟ وكيف نستطيع أن نفسّر هذا الانتظام في هذا الكون والعلاقات السببية، والتكامل والتوافق والتوازن الذي ينتظم سائر الظواهر وتمتد آثارها من عصر إلى عصر؟ كيف يعمل هذا الكون دون أن يكون له خالق مدبّر هو الذي خلقه وأبدعه ودبّر سائر أموره؟ دورة الماء في الطبيعة، ودورة ثاني أكسيد الكربون، وعمليات التكاثر العجيبة، وعمليات التمثيل الضوئي ذات الأهمية البالغة في اختزان الطاقة الشمسية، وما لها من أهمية بالغة في حياة الكائنات الحية، وما لا يحصى من عجائب هذا الكون.(7)
القانون الدوري:
إن أمور هذا الكون منظمة تنظيمًا دقيقًا مما ينفي فكرة المصادفة تمامًا، فمنذ مئة سنة تقريبًا استطاع العالم الروسي ماندليف ترتيب العناصر الكيماوية تبعًا لتزايد أوزانها الذرية، ترتيبًا دوريًّا، وقد وجد العناصر التي تقع في قسم واحد تؤلّف فصيلة واحدة يكون لها خواص متشابهة، فهل يمكن إرجاع ذلك إلى مجرد المصادفة؟
وكذلك تمكّن العلماء بفضل هذا الترتيب من أن يتنبؤوا بوجود عناصر لم يكن البشر قد توصّلوا إليها بعد، بل أمكن التنبؤ بخواص هذه العناصر المجهولة وتحديدها تحديدًا دقيقًا، ثم صدقت حساباتهم في جميع الحالات، فاكتُشفت العناصر المجهولة، وجاءت صفاتها مطابقة كل المطابقة للصفات التي توقعوها، فهل يبقى بعد ذلك مكان للاعتقاد أن أمور هذا الكون تجري على أساس المصادفة؟!
إن اكتشاف مندليف لا يطلق عليه المصادفة الدورية ولكن يطلق عليه القانون الدوري!!
وقد عرف العلماء كذلك أن سرعة التفاعل بين ذرات المعادن القلوية والماء تزداد بزيادة أوزانها الذرية، بينما تسلك عناصر الفصيلة الهالوجينية سلوكًا مناقضًا لهذا السلوك كل المناقضة، ولا يعرف أحد سبب هذا التناقض، ومع ذلك فإن أحدًا لم يرجع ذلك إلى محض المصادفة، أو يظن أنه ربما يتعدّل سلوك هذه العناصر بعد شهر أو شهرين، أو تبعًا لاختلاف المكان والزمان، أو خطر بباله أن هذه الذرّات ربما لا تتفاعل بالطريقة نفسها، أو بطريقة عكسية أو بطريقة عشوائية(8).
إن هذا النظام الذي نشاهده من حولنا ليس مظهرًا من مظاهر القدرة فحسب، بل إنه يتصف فوق ذلك بالحكمة، والاتجاه نحو تحقيق صالح الإنسان، ما يدل على أن اهتمام الخالق بما ينفع عباده لا يقل عن اهتمامه بالسنن والقوانين التي تنظم هذا الوجود.
الماء العجيب:
فالماء مثلًا، يتوقع الإنسان من وزنه الجزيئي (18) أن يكون غازًا تحت درجة الحرارة المعتادة، والنمط المعتاد، فالنشادر مثلًا وزنها الجزيئي (17) تكون غازية عند درجة حرارة (-73)، وتحت الضغط الجوي المعتاد، وكبريتور الأيدروجين الذي يعتبر قريبًا في خواصه من الماء بحكم وضعه في الجدول الدوري، وله وزن جزيئي قدره (34)، يكون غازيًّا عند درجة حرارة (-59).
ولذلك فإن وجود الماء على هذه الحالة السائلة في درجة الحرارة المعتادة يجعل الإنسان يقف ليفكر ويتدبّر كثيرًا!!
وللماء فوق ذلك كثير من الخواص الأخرى ذات الأهمية البالغة، التي إذا نظر الإنسان إليها وجدها تدل على التصميم والتدبير المحكم، فالماء يغطي نحو ثلاثة أرباع سطح الأرض، وهو بذلك يؤثر تأثيرًا بالغًا في الجو السائد، ولدرجة الحرارة أهمية كبيرة، إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما تشتد البرودة، ويكوّن طبقة عازلة بينه وبين الماء تحفظ درجة حرارة الماء، ما يلائم استقرار الحياة تحت الماء، ولولا ذلك لتكوّنت كتل من الجليد أسفل البحار يصعب إذابتها، وعندما يأتي الربيع يذوب هذا الجليد بسرعة.
لذلك يقول أحد العلماء: إنني أرى في كل ظاهرة من هذه الظواهر أكثر من الخلق والتدبير المجرد من العاطفة، إنني ألمس فوق كل ذلك محبة الخالق لخلقه واهتمامه بأمورهم.(9) إذًا يتبين لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن المصادفة لا مكان لها في إيجاد العالم أو خلقه، فهذا مما لا يتصوره عقل عاقل.
رادار الوطواط:
وقد نستطيع في ضوء خبرة الإنسان العلمية أن نتقدم بالسؤال التالي: هل تم اختراع جهاز الرادار نتيجة المصادفة، أم عن طريق التصميم والاختراع، ثم هل تكوّن جهاز الرادار الموجود بجسم الوطواط، الذي لا يحتاج من الحيوان إلى انتباه، ولا يتطلب إصلاحًا ويستطيع أن يورثه لذريته عبر الأجيال، هل تكوّن عن طريق المصادفة أم عن طريق التصميم والإبداع؟
إن الخبرة العلمية للإنسان تقوم على التصميم، وعلى إدراك الأسباب، وعلى ذلك فإن المشتغل بالعلوم أوّل من عليه التسليم منطقيًّا بوجود خالق مبدع لا حدود لعلمه أو قدرته، سواء في ذلك المكان المتسع، أو كل ذرة أو جزئية من جزئيات هذا الكون اللانهائية في تفاصيلها الدقيقة.(10)
إن هذا الكون وما فيه من بدائع الحكم وغرائب المخلوق ودقيق الصنع مع العظمة والاتساع والتناسق والإبداع، وهذه السماء الصافية بكواكبها وأفلاكها، وشموسها وأقمارها ومداراتها، والأرض بنباتها وخيراتها ومعادنها وكنوزها وعناصرها وموادها، وعالم الحيوان وما فيه من غريب الهداية والإلهام، وتركيب الإنسان وما حواه من أجهزة، وعالم البحار، والقوى الكونية وما فيها من حكم وأسرار، كل هذا يأتيك بالدليل القاطع والبرهان الساطع على العقيدة السهلة السليمة، وهي أن لهذا الكون خالقًا صانعًا موجِدًا، وأن هذا الصانع لا بد من أن يكون عظيمًا فوق ما يتصوره العقل البشري من العظمة، وقادرًا فوق ما يفهم الإنسان من القدرة، وحيًّا أكمل معاني الحياة.(11)
وقد قال نيوتن في جواب عن سؤال وُجه إليه أن يقدم دليلًا في درجة المحسوس لوجود الخالق، فقال: لا تشكّوا في الخالق، فإنه مما لا يعقل أن تكون الضرورة وحدها هي فائدة الوجود، لأن ضرورة عمياء متجانسة في كل مكان وفي كل زمان لا يتصور أن يصدر منها ترتيب أجزاء، وتناسبها مع تغيرات الأزمنة والأمكنة، بل إن كل هذا لا يعقل أن يصدر إلا من كائن أولي له حكمة وإرادة.(12)
هل الطبيعة هي الخالقة؟!
ما هي الطبيعة؟ ولماذا يقول بعضهم إن الطبيعة هي الخالقة؟
للطبيعة مفهومان؛ المفهوم الأول: أنها الأشياء ذاتها، فالجماد والحيوان والنبات، كل هذه الكائنات هي الطبيعة، إلا أنه مفهوم غير دقيق، وحكم غير سديد، كما سيتبين.
المفهوم الثاني: أنها عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها، فهذه الصفات من حرارة وبرودة، ورطوبة ويبوسة، وملاسة وخشونة، وهذه القابليات من حركة وسكون، ونمو واغتذاء، وتزاوج وتوالد، كل هذه الصفات والقابليات هي الطبيعة.
أما القول الأوّل: فلا يخرج بالطبيعة بالنسبة إلى خلق الوجود عن تفسير الماء بالماء، فالأرض خلقت الأرض، والسماء خلقت السماء، وبطلان هذا القول بيِّن، فهو إما ادعاء بأن الشيء وجد بذاته من غير سبب، وقد تبين فساده بقانون السببية، وإما إدماج الخالق والمخلوق في كائن واحد، فالسبب عين المسبب، وهو مستحيل، بل هو من التهافت والتناقض بحيث لا يحتاج إلى الوقوف والشرح.
أما القول الثاني: وهو الاعتماد على قابليات الأشياء وخصائصها في التكوين، فنقول فيه: الحقيقة أن الذين يعزون الخلق إلى تلك القابليات والخصائص لا يخرجون عن كونهم واصفين لتلك الظواهر، لا يعرفون كنهها، ولم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن حقيقتها، ولو فعلوا ذلك لوجدوا أن القابلية التي اعتمدوا عليها في خلق الشيء سراب خادع، يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
فالق الحب:
مثال: نضع حبة في التراب، ونسقيها بالماء، فتنتفخ وتنفلق... فالقابليّة التي كانت في الحبة هي الانتفاخ والانفلاق، ولولا هذه القابليات المتوالية لما حدثت تلك الظواهر الحيوية بصورة مستمرة، ولما نشأت عنها الثمرة، فلنأت إلى هذه القابلية بالذات نبحث عن حقيقتها.
لو لم تنتفخ الحبّة وتنفلق لما نشأ شيء، فمن الذي نفخها وفلقها! لو كان للحبّة عقل وتدبير لقلنا: إن عقلها هو الذي هيأ لها ذلك، ولو أن الماء هو الذي نفخها وفلقها، لأمكن للماء أن ينفخ في الحديد فيفلقه، إذن فلا بد من مؤثر، وقبول لتأثير ذلك المؤثر، وإذا كانت الحبّة بذاتها -جدلًا- انتفخت وانفلقت، فلماذا لم تجمد وتضمر بدلًا من أن تنتفخ وتنمو؟!
ولكي يحصل التكاثر والبقاء يحتاج الأمر إلى عقل وإدراك، ومنهاج مرسوم من قبل لتلك البذرة، والبذرة لا تملك شيئًا من ذلك! فكيف حصلت إذن ثمرة بعينها، بل كيف حصلت ثمار كثيرة متنوّعة، وكيف كمنت الغاية المعينة والصفات المقصودة في صميم كل بذرة منها؟
احتراق الوقود.. هل يخلق المحرك؟!
ولكي نزيد الأمر وضوحًا، نضرب لذلك مثالًا بمحرك السيارة، فإن تحرّك أجزاء المحرّك واحتراق البنزين والوقود، كل تلك الخصائص قابليات وطبائع، فهل تجد أن قابلية الاحتراق وخاصية الانفجار وقوانين الميكانيكا هي التي خلقت المحرّك، وأبدعت السيارة؟ لا شك في أن القابلية غير ذات الشيء، فالطبائع أسباب فرعية تساند مبدأ السببية.(13)
إله أم اثنان؟!
من كل هذا الذي سردناه يتبين لنا أن هذا الكون حادث؛ له بداية ولا بد له من خالق أو مُوجد أوجده، وأن قضية المصادفة باطلة بكل المقاييس العقلية والعلمية، ولم يبق لنا إلا أن يكون هذا العالم أوجده إله قادر حكيم عليم محب لخلقه، كما تبين لنا مما سبق.
وهنا نكون قد وصلنا إلى نقطة فاصلة، فمن هذا الإله؟ ولماذا لا تكون آلهة متعدّدة؟ وما هي صفات هذا الإله؟
أقول إن هذا الكون العظيم تجمعه كله وحدة الانسجام والتنظيم، والترابط والتلاؤم بين جميع مكوناته، ما يدل على أن خالقه واحد. فلو كان هناك إلهان لهذا العالم فإما أن يكون الاثنان قويين، وإما عاجزين، فإن كانا عاجزين، فالعاجز مقهور، وغير كائن إلهًا، وإن كانا قويين، فإن كل واحد منهما يعجز عن صاحبه فهو عاجز، والعاجز لا يكون إلهًا، فإن كان كل واحد منهما قويًّا على صاحبه، فهو بقوة صاحبه عليه عاجز، إذن لم يبق إلا الواحد الطلق الذي لا يعجزه شيء.
ولو كان هناك إلهان، يريد أحدهما فعل شيء، ويريد الآخر فعل عكس ذلك الشيء، في الوقت نفسه، فمحال نفوذ الإرادتين لاستحالة المراد، فإن غلبت إرادة أحدهما على الآخر، فهذا الآخر عاجز مقهور، فهو ليس بإله، وبقي واحد.. إذًا فلا بد من أن يكون هذا الإله واحدًا.
كذلك لا بد أن يكون هذا الإله عليمًا حكيمًا قديرًا مدبرًا محيطًا سميعًا بصيرًا كبيرًا عظيمًا جميلًا. ولكن كيف عرفنا ذلك؟
مؤلّف الكتاب:
لو أخذنا كتابًا ودرسناه، فإننا نستطيع أن نتعرّف إلى كثير من صفات كاتبه أو مؤلّفه من خلال دراستنا للكتاب، فإذا كان في الكتاب أدب حكمنا على صاحبه بأنه أديب، وإذا كان مبتكرًا حكمنا على صاحبه أنه مبدع، وإذا كان بليغًا حكمنا على صاحبه أنه بليغ، وإذا كان فيه إحاطة في موضوعه قلنا عن صاحبه بأنه محيط، وإذا كان فيه دقّة وجمال في العرض، حكمنا على صاحبه بأنه ذواق ودقيق، وإذا كان الكتاب مرتّبًا منظّمًا منسجمًا متسلسل الأفكار، حكمنا على صاحبه بأنه ناضج، وإذا كان في الكتاب علم كثير، حكمنا على صاحبه بأنه عليم، وهكذا، فكل ظاهرة في الكتاب تدلنا على صفة من صفات صاحبه نسمي صاحبه بسببها اسمًا مشتقًا منها، له علاقة بها، وبالتالي نكون قد عرفنا صاحب الكتاب.
ولنطبق هذه القاعدة، فكل ظاهرة من ظواهر الكون تدل على اسم من أسماء خالق هذا الكون أو أكثر، فالكون من آثار خالق هذا الكون، فظاهرة القدم وحدوث العالم تدل على أنه الأوّل والخالق، وظاهرة الحياة تدل على أنه المحيي المميت، وظاهرة الحكمة تدل على أنه الحكيم وهكذا.(14)
هل تشك في وجود نفسك؟!
يقول "جون لوك" الفيلسوف الإنجليزي الشهير، في كتابه "محاولة الفهم البشري":
إنه لأجل إثبات الخالق لا ترانا في حاجة إلا إلى التأمل في أنفسنا وفي وجودنا، فإنه مما لا مشاحة فيه أن كلًا منا يعتقد أنه موجود، وأنه شيء من أشياء الوجود، أما الذي يشك في وجود نفسه فليس لنا معه كلام، وإننا نعلم أيضًا ببداهة العقل أن العدم لا ينتج مطلقًا كائنًا حقيقيًّا، ومن هنا يظهر لنا بوضوح جلي وبأسلوب رياضي أنه لا بد من أن يكون قد وجد شيئًا من الأزل.
لأن كل ما له بداية يجب أن يكون نابعًا من شيء تقدّمه، ومما لا ريب فيه أن كل كائن يكتسب وجوده من غيره يستمد منه كل ما هو متمتع به من الخصائص والصفات، إذًا فالينبوع الأزلي الذي نتجت منه جميع الكائنات، يجب أن يكون هو أصل جميع قواها، فهو إذن قادر على كل شيء.
وغير ذلك فإن الإنسان يرى في نفسه قوة على العلم، فيجب أن يكون الأصل الأزلي الذي نتج منه الإنسان عالمًا، لأنه لا يعقل أن ذلك الأصل يكون مجرّدًا عن العلم، وتنتج منه كائنات عاقلة، وما يناقض البداهة أن المادة المجرّدة من الحس تتمتع نفسها بعقل لم يكن لها من قبل، فيجب بالبداهة أن يكون أصل الكون عاقلًا بل لا حد لعقله.(15)
هل كنت موجودًا قبل أن توجد؟!
يقول فنيلون؛ وهو من كبار فلاسفة القرن السابع عشر في كتابه "وجود الله وصفاته":
"إنما علمت ببحثي في نفسي أني لم أخلق ذاتي؛ لأن إيجاد الشيء يقتضي الوجود قبله، فيلزم على ذلك أني كنت موجودًا قبل أن أوجد، وهو تناقض صريح، فهل أنا موجود بذاتي؟
فلأجل أن أجيب عن هذا السؤال يلزمني أن أعرف ماذا يجب أن يكون عليه الكائن الموجود بذاته، يجب أن يكون أزليًّا ثابتًا، ولا يكون محتاجًا لشيء من الخارج عنه... إذن فلست أنا الكامل كمالًا مطلقًا، ولست أنا القائم بنفسي، فلا بد إذن من قيّوم أوجدني، وإذا كان غيري أوجدني فلا بد من أن يكون موجودًا بذاته، ويلزم من ذلك أن يكون كاملًا كمالًا مطلقًا، فهذا الكائن القائم بذاته، الذي أنا قائم به، هو الله.(16)
إذن قد عرفنا أن هناك إلهًا وأنه متّصف بصفات الكمال، لكن ما علاقتنا بهذا الإله، هل خلقنا وتركنا كي نصل إليه بعقلنا؟ وهل العقل كافٍ في الوصول إليه؟ وماذا بعد ذلك؟ ولماذا خلقنا؟
أقول لك إن العقل غير كافٍ في الوصول إلى الله ومعرفته حق المعرفة، وإن كان كافيًا في الدلالة عليه، فهو غير كافٍ في القيام بحق هذا الإله؛ إذ إن العقل قد تعتريه بعض الأهواء التي تضلّه، وبعض الغرائز التي جُبل عليها الإنسان والتي قد تؤثر في صحة رؤيته، بالإضافة إلى تفاوت الناس في عقولهم، فليست العقول سواء.
ولقد جعل الله الأداة الأولى لإدراك وجوده هي العقل، فالعقل هو الذي يدرك وجود الله تعالى بالدليل العقلي الذي وضعه الخالق في الكون، ولكن مهمّة العقل بالنسبة إلى هذا الوجود محدودة، ذلك أننا بالعقل ندرك أن هناك خالقًا مبدعًا قادرًا، ولكننا بالعقل لا نستطيع أن ندرك ماذا يريد الخالق منا، وكيف نعبده، وكيف نشكره، وماذا أعد لنا من جزاء، يثيب به من أطاعه، ويعاقب به من عصاه، فهذا كله فوق قدرة العقل.
ولذلك كان لا بد أن يرسل الله الرسل ليبلغونا عن الله، لماذا خلق الله هذا الكون؟ ولماذا خلقنا؟ وما هو منهج الحياة الذي رسمه لنا لنتّبعه؟ وماذا أعد لنا من ثواب وعقاب؟ فتلك مهمة فوق قدرات عقولنا، وتلك مهمة لو استخدمنا فيها العقل لن نصل إلى شيء.
العقل وحده لا يكفيك:
يظن الإنسان أنه يستطيع أن يصل إلى كل شيء وحده، وأن يدرك الحقيقة كاملة بنفسه، برغم أنه لا يعلم نفسه ولا ما يستقر فيها من مشاعر ولا يدرك حقيقة نفسه ولا حقيقة مشاعره.
العقل لا يدرك حتى هذه اللحظة ما هو العقل نفسه؟ وأين يوجد هذا العقل؟ هل هو في الرأس أم في القلب أم في سائر الجهاز العصبي؟ وما هي العلاقة بين الدماغ والعقل والجهاز العصبي بشكل عام؟ هل العقل أمر مادي محسوس أم أنه لا يمتلك مكانًا محسوسًا في جسم الإنسان، وهو في ذلك مثيل للروح؟ وحتى هذه اللحظة فإن العقل لم يُدرَك بالعقل!! وإذا كان العقل لا يستطيع أن يدرك كنه ذاته بذاته فكيف بهذا العقل المُبهم المجهول أن يدرك كنه خالقه سبحانه وتعالى؟!!
فالعقل نفسه لا يعرف كيف يعمل، لأنه لا يملك مراقبة نفسه في أثناء عمله، وحين يرقب نفسه يكف عن عمله الطبيعي، فلا يبقى هناك ما يراقب، وحين يعمل عمله الطبيعي لا يملك أن ينشغل في الوقت ذاته بالمراقبة، ومن ثم فهو عاجز عن معرفة خاصة ذاته، وعن معرفة طريقة عمله، وهو الأداة التي يتطاول بها الإنسان!(17)
بل إن الإنسان لم يكن يومًا من الأيام قادرًا على حماية نفسه من المطامع والحروب والصراع، حتى بعد أن أحرز مفاتيح العلوم، وعرف سنن الطبيعة، بل لعله لم يكن في يوم من الأيام أشد منه في هذه الأيام صراعًا واندفاعًا واستعدادًا لمثل هذه الأمور.
إن الإنسان هو الإنسان مهما تقدّم في مضمار السبق العلمي، وما لم تتقدّم مفاهيمه النفسية والروحية، فتعلو به عن الهوى والمادة والمطامع، فسيستعمل كل ما أحرزه من تقدّم في سبيل الشر، ولن يكون الإنسان آمنًا على نفسه ومجتمعه، إلا إذا كان مؤمنًا بالله، ملتزمًا منهاجه، متحركًا داخل إطاره.(18)
طريق الرسل:
من هنا كان لا بد من طريق آخر يدعم صحيح العقل ويؤيده، وهذا الطريق هو طريق الرسل الذين قامت الأدلّة على صدقهم، والذين جاؤوا بالدين الصحيح؟ ولكن أي دين؟!
هناك العديد من الأديان التي لا نستطيع عدّها، فهناك من يعبد حجرًا وهناك من يعبد صنمًا وهناك من يعبد فأرًا، وهناك من يعبد القمر، وهناك من يعبد الشمس، وهناك من يعبد بشرًا، وهناك من يعبد الخلاء، وهناك من يعبد إلهًا يزعم أنه ليس من حق الغير أن يعرفه.
وهناك من يعبد إلهًا فوق كل هذا، خلق الشمس والقمر وأوجد البشر والحجر، يتصف بكل صفات الكمال ويتنزه عن كل صفات النقص، ومن حق كل البشر أن يعرفوه، وأن يعبدوه، وأن يشكروه؛ لأنه خالقهم وإلههم، وأنزل لهم دينًا يدعو إلى كل خير، وينهى عن كل شر، دين وسط لا يكلف أتباعه فوق ما يطيقون، ولا يتركهم يلعبون، وهذا الدين يسمى الإسلام.
كما أن هناك العديد من المذاهب الفلسفية التي دعت إلى عبادة الإله، ووصفت هذا الإله بأوصاف متعدّدة وفق ما ارتأته هذه المذاهب وواضعوها.
فأي هذه المذاهب والأديان دين الله الذي أرسل به الرسل؟! وما مكانته بين هذه الأديان التي يكتظ بها العالم؟!
وللتوضيح نستعرض العقيدة الإلهية في عدد من المذاهب والأديان، ومقارنتها بالعقيدة الإسلامية تلك التي نقول عنها إنها أكمل الأديان وأتمها، وإنها دين الله الذي كلّف البشر جميعهم أن يتبعوه.
ونكتفي بالعقيدة الإلهية؛ لأن العقيدة في الإله رأس العقائد الدينية بجملتها وتفصيلها، فمن عرف عقيدة قوم عرف نصيب دينهم من رفعة الفهم والوجدان، ومن صحة المقاييس التي يقاس بها الخير والشر، وتقدّر بها الحسنات والسيئات، فلا يهبط دين وعقيدته في الإله عالية، ولا يعلو دين وعقيدته في الإله هابطة لا تناسب صفات الموجود الأوّل الذي تتبعه جميع الموجودات.
الإله عند اليونانيين:
نبدأ بتصور اليونانيين للإله، فقد كان هناك صورتان للإله عند اليونانيين؛ صورة فيها تنزيه وتجريد للإله، تصفه ببعض صفات الكمال الواردة في مذاهب الفلاسفة وعلى رأسهم أرسطو، وصورة تقترب فيها صورة الإله من الشيطان في عقائد العامة.. فلنتأمل الصورتين.
عند أرسطو:
أن الإله كائن أزلي، أبدي، مطلق الكمال، لا أوّل له ولا آخر، ولا عمل له، ولا إرادة؛ مذ كان العمل طلبًا لشيء، والله غني عن كل طلب؛ وقد كانت الإرادة اختيارًا بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح والأفضل من كل كمال، فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير صالح، ولا بين فاضل ومفضول، وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطو أن يبتدئ العمل في زمان، لأنه أبدي سرمدي لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أوّل ولا آخر، ولا جديد ولا قديم، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها، ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج من نطاقها عناية تعنيه.
فالإله الكامل المطلق الكمال: لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولى "الهيولى"، ولكن لهذه الهيولى قابلية للوجود، ويخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها من النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها، فتتحرك وتعمل بما فيها من الشوق والقابلية.
ولا يقال عنها: إنها من خلق الله إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار.. كمال مطلق لا يعمل ولا يريد، أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو والعدم المطلق على حد السواء.. هذا هو مذهب أرسطو.
عقائد العامة:
كان "جوبيتر" رب الأرباب عندهم؛ حقودًا لدودًا، مشغولًا بشهوات الطعام والغرام، لا يعنيه من شؤون الأرباب والمخلوقات، إلا ما يعينه على حفظ سلطانه، والتمادي في طغيانه.
وكان يغضب على "أسقولاب" إله الطب، لأنه يداوي المرضى، فيحرمه جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الأرض إلى باطن الهاوية، وكان يغضب على "برومنيوس" إله المعرفة والصناعة، لأنه يعلم الإنسان كيف يستخدم النار في الصناعة، وكيف يتخذ من المعرفة قوة تضارع قوة الأرباب، وقد حكم عليه بالعقاب الدائم، فلم يقنع بموته ولا بإقصائه عن حظيرة الآلهة، وكان يخادع زوجته "هيرة" من أجل عشيقاته.
الإله في الديانات الهندية:
ومثل الأمم القديمة كمثل اليونان، في بعد الفارق بين صورة الإله في حكمة الفلاسفة وصورته في شعائر الكهان والمتعبدين، فالهند القديمة كانت تطوي هياكلها ومعابدها على طوائف من الأرباب، منها ما يلحق بالحيوان وعناصر الطبيعة، ومنها ما يلحق بالأوتاد والأنصاب، وكثير منها يتطلب من سدنته أن يتقرّبوا إليه بالبغاء المقدس وسفك الدماء.
وقد انتهى إلى ثالوث أبدي يشتمل على ثلاث من الصور الإلهية، هي الإله "برهما" في صورة الخالق، والإله "فيشنو" في صورة الحافظ، والإله "سيفا" في صورة الهادم، فجعلوا الهدم وسفك الدماء من عمل الإله الأعلى، وزادوا على ذلك أنهم جعلوا لكل إله قرينًا يسمونه "الشاكني" أو الزوجة أو الصاحبة، فينسبون إليها من الشرور ما ينزهون عنه قرينها أو صاحبها.
فهذه الأرباب صورة، لا تبتعد عن صور الشياطين والعفاريت والأرواح الخبيثة المعهودة في أقدم الديانات.
فإذا ارتفعنا إلى معارج التجريد والتنزيه بلغنا منها ذروتها العليا في صورتين هما: "الكارما" و"النرفانا"، وكلتاهما من قبيل المعاني الذهنية، وقل أن توصف بهما الذات الإلهية، فالكارما حالة من الحالات العامة، يمكن أن يعبر عنها بأنها هي ما ينبغي، وهي الوضع الحاصل عى النحو الأمثل، فليست ذاتًا إلهية معروفة الصفات، ولكنها مرادف لكلمة الواجب.
و"النرفانا"؛ حالة أقرب إلى العدم التي تنتهي إليها جميع الأرواح حين تفرغ من عناء الوجود، وتتساوى فيه أرواح الآلهة وأرواح البشر.
الديانات في مصر القديمة:
بلغت عقائد المصريين القدماء في الآلهة درجة عالية من الرقي في التوحيد والتنزيه، وإن كانت في العبادات الشائعة تهبط أحيانًا إلى مهبط الديانات الغابرة من عبادة الطوطم والأنصاب، وعبادة الأرواح الخبيثة والشياطين.
فقد بلغت ذروتها في التوحيد والتنزيه في ديانة آتون، التي بشر بها الفرعون المنسوب إليه إخناتون، ويؤخذ من صلوات إخناتون المحفوظة في أيدينا، أنه كان يصلي إلى خالق واحد، يكاد يقترب في صفاته من الإله الخالق، الذي يصلي له العارفون من أتباع الديانات الكتابية، لولا شائبة من العبادة الوثنية علقت به من عبادة الشمس، فكانت هذه الشمس رمزًا له ومرادفًا لاسمه في معظم الصلوات.
الإله.. بين التنزيه والشيطان:
ونكتفي بتلك النماذج لتكون شواهد على ما ارتقت إليه فكرة الألوهية من التنزيه، وما هبطت إليه من التجسيم والتشبيه.
فأما تلك الديانات التي قرّبت صورة الإله من صورة الشيطان، ووصفته بما لا يصح، فهي باطلة في ذاتها لا تحتاج إلى إبطال، وأما تلك التي نزهت الإله فيلاحظ عليها أمران:
الأول: أن فكرة التنزيه كانت مقصورة على الفئة القليلة من المفكرين، والمطلعين على صفوة الأسرار الدينية.
الثاني: أنه تنزيه لم يسلم في كل أوقاته من ضعف يعيبه عقلًا، ويجعله غير صالح للأخذ به في عبادات العامة على الخصوص.
ففي الديانة المصرية القديمة، لم تسلم فكرة التوحيد من شائبة الوثنية، ولم تزل عبادة الشمس ظاهرة الأثر في عبادة آتون.
وديانة الهند لم تهدِ الناس إلى الإيمان بذات إلهية معروفة الصفات، وليست في معبوداته أشرف من الكارما والنرفانا، وهي بالمعاني الذهنية أشبه منها بالكائنات الحية، وإحداهما وهي النرفانا أقرب إلى الفناء من البقاء.
والتنزيه الفلسفي الذي ارتقت إليه حكمة اليونان في مذهب أرسطو يكاد يلحق الكمال بالعدم المطلق، ويخرج لنا صورة للإله لا تصلح للإيمان بها ولا للاقتناع بها على هدي من الفهم الصحيح.
كل ذلك لا يبلغ بالتنزيه الإلهي مبلغه الذي جاءت به الديانة الإسلامية، صالحًا للإيمان به في العقيدة الدينية، وصالحًا للأخذ به في المذاهب الفكرية.(19)
الإله في الإسلام:
فما هي صفات الإله في الإسلام؟ ومن هو هذا الإله؟ وما اسمه؟
مجمل ما يُقال عن العقيدة الإلهية في الإسلام؛ أن الذات الإلهية هي غاية ما يتصوره العقل البشري من الكمال في أشرف الصفات. فالعقيدة الإلهية في الإسلام فكرة تامة؛ لا يتغلب فيها جانب على جانب، ولا تسمح بعارض من عوارض الشرك والمشابهة، ولا تجعل لله مثيلًا في الحس ولا في الضمير، بل له المثل الأعلى؛ (فكل كمال في نفسه ثبت للمخلوق ليس فيه نقص بوجه من الوجوه، فإن الخالق أولى به من المخلوق، وكل نقص تنزه عنه المخلوق، فالخالق أولى بأن يتقدس ويتنزه عنه) وليس كمثله شيء، فالإله وحده لا شريك له، "ولم يكن له شريك في الملك".
والمسلمون هم الذين يقولون "ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء"، ويقولون أيضًا "ولن نشرك بربنا أحدًا".
ويرفض الإسلام الأصنام على كل وضع من أوضاع التمثيل أو الرمز أو التقريب، وللإله في الإسلام أعلى صفات الكمال، وله الأسماء الحسنى، فلا تغلب فيه صفات القوة والقدرة على صفات الرحمة والمحبة، ولا تغلب فيه صفات الرحمة والمحبة على صفات القوة والقدرة. فهو قادر على كل شيء، وهو عزيز ذو انتقام، وهو كذلك رحمن رحيم، وغفور رحيم، وسعت رحمته كل شيء، وهو الخالق دون غيره.
فليس الإله في الإسلام مصدر النظام وكفى، ولا مصدر الحركة الأولى وكفى، ولكن الله "خالق كل شيء"، "وخلق كل شيء فقدّره تقديرًا"، "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده"، "وهو بكل شيء عليم".
الله في الإسلام "عالم الغيب والشهادة"، و"لا يعزب عنه مثقال ذرة"، وهو لا يغفل عن خلقه، "وما كنا عن الخلق غافلين"، و"وسع كل شيء علمًا"، وهو "عليم بما في الصدور" وهو كذلك مريد و"فعال لما يريد".
فكانت فكرة الله في الإسلام هي الفكرة المتممة لأفكار كثيرة موزعة في هذه العقائد الدينية والمذاهب الفلسفية التي تدور عليها، ولهذا بلغت المثل الأعلى في صفات الذات الإلهية، وتضمّنت تصحيحًا للضمائر، وتصحيحًا للعقول في تقرير ما ينبغي لكمال الله، بطريق الإيمان وطريق النظر والقياس.
والإله في الإسلام واحد صمد لا يحيط به الزمان والمكان، وهو محيط بالزمان والمكان، فهو الأوّل وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن، "وهو بكل شيء محيط".
كذلك جاء الإسلام بالقول الفصل في مسألة البقاء والفناء؛ فالإله وحده هو الأبدي السرمدي الذي ليس في زمان، وبقاء المخلوقات في زمان، وبقاء الخالق بقاء أبدي سرمدي لا يحده الماضي والحاضر والمستقبل، فالإله هو الحي الذي لا يموت، "وهو الذي يحيي ويميت"، "وكل شيء هالك إلا وجهه"، ولا بقاء على الدوام إلا لمن له الدوام ومنه الابتداء وإليه الانتهاء.(20)
من ثوابت العقيدة عند المسلمين أن الله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان؛ لأن المكان والزمان مخلـوقان، وتعالى الله سبحانه أن يحيط به شيء من خلقه، بل هو خالق كل شيء، وهو المحيط بكل شيء. وهذا الاعتقاد متفق عليه بين المسلمين لا يُنكره أحد، وقد عبَّر عن ذلك أهل العلم بقولهم: "كان الله ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان؛ لم يتغير عما كان". (21)
يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "مَنْ زعم أن الله في شيء أو من شيء أو على شيء فقد أشرك؛ إذ لو كان في شيء لكان محصورًا، ولو كان على شيء لكان محمولًا، ولو كان من شيء لكان مُحْدَثًا". وكل ذلك للتقريب فقط، وإلا فإن العقل البشري غير مؤهل للتفكير أبعد من ذلك، وهو مخلوق عاجز عن معرفة حقيقة ذاته (العقل)، فكيف يدرك حقيقة خالقه سبحانه وتعالى؟!
وأما ما ورد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على علو الله عز وجل على خلقه فالمراد بها علو المكانة والشرف والهيمنة والقهر؛ لأنه تعالى منـزه عن مشابهة المخلوقين، وليست صفاته كصفاتهم، وليس في صفة الخالق سبحانه ما يتعلق بصفة المخلوق من النقص، بل له جل وعلا من الصفات كمالُها ومن الأسماء حُسْنَاها. وكل ما خطر ببالك من أوهام فالله تعالى خلاف ذلك، والعجز عن درك الإدراكِ إدراكُ، والبحث في كنه ذات الرب إشراكُ.
ولا يصح أن نتصوره وهمًا باطلًا مثل سائر الأشياء.. فهو "متعالٍ" على ذلك كله. فالعالم باطل والله حق، ولعالم زائل والله دائم، والعالم متغير والله ثابت، ولعالم سجين في حدود الزمان والمكان والله متعالٍ على الزمان والمكان.
والله سبحانه متعالٍ في الإطلاق (الأزل والأبد) وليس له مبتدأ ولا منتهى ولا حدود، وهو متعالٍ على قوانين الكون الذي هو خلقه، وهو منزه عن أن يخضع لشيء منها. فهو خالق الزمان بإطلاقه فإين كان سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الزمان؟! وهو خالق هذا الكون والمكان بإطلاقه فأين كان قبل أن يخلق المكان؟!
والله سبحانه وتعالى متعالٍ على الزمان والمكان، ولذلك فهو لا يتحيز في مكان ولا يحده زمان. ولأنه سبحانه متعالٍ على الزمان فإنه ليس له عمر وليس له بداية ولا نهاية، وليس له ماض ولا حاضر ولا مستقبل، وإنما حضوره مطلق سبحانه وتعالى في آن مستمر وديمومة أبدية ماثلة في الغيب والشهادة على الدوام. (22)
صفات الله في الإسلام:
للاقتراب أكثر من معرفة الإله في الإسلام.. معرفة الله، الذي يؤمن المسلمون بأن معرفته على وجه الدقّة والإحاطة غير ممكنة، لقصور العقل البشري عن ذلك، إلا أن مستوى المعرفة الإسلامية عن الله هي أكمل العقائد الدينية التي عرفها واهتدى إليها البشر، ولا يحتاجون أكثر منها، وهي المعرفة الراقية والصحيحة، التي توصلوا إليها بالنقل والعقل، وللتعرف إليها سنقترب سريعًا من هذه الصفات.
واحد: لا شريك له، فهو إله واحد في ذاته؛ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد؛ وليست له زوجة ولا صاحبة ولا أولاد، وجميع البشر لديه سواسية، فهو ربهم وخالقهم، وهم عباده، واحد في صفاته، وهذه الوحدانية هي جوهر العقيدة الإسلامية، واحد في ذاته.
أحد: الذي لا نظير له ولا وزير، ولا شبيه ولا عديل؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.
صمد: سيد قد كمل في سؤدده، باقٍ بعد خلقه، يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، لم يلد ولم يولد، قد تنزه عن الطعام والشراب.
رحمن رحيم: يخلص عباده من أنواع الآفات، ويوصل الخيرات إلى أصحاب الحاجات.
ملك: يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود، ويحتاج إليه كل موجود، وكل شيء سواه هو له مملوك في ذاته وصفاته، وتحت ملكه وقهره وإرادته.
قدوس: منزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج به ضمير، أو يقضي به تفكير، فالقدوس عبارة عن كون حقيقة ذاته مخالفة للماهية التي هي في أنفسها نقائص.
حكيم: صاحب الحكمة الحقيقية المطلقة.
سلام: الذي تسلم ذاته عن العيب، وصفاته عن النقص، وأفعاله عن الشر، وليس في الوجود سلامة إلا وكانت منسوبة إليه صادرة عنه.
مؤمن: فهو الذي يمنح الأمن والأمان.
مهيمن: يقوم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم.
عزيز: لا يوجد له نظير، ويحتاج إليه كل شيء في وجوده وبقائه وصفاته، فهو قد عز عن كل شيء فقهره، ولا يُنال جنابه لعزته وعظمته وجبروته.
جبار: تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل أحد.
متكبّر: لا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه.
خالق: خلق كل شيء، ولم يخلقه شيء، موجد الكل من العدم، وهو موجود منذ القدم، يخلق ما يشاء وينشئ الإنشاء، وهو على كل شيء قدير، خلق الإنسان من نطفة، وجعل له عينين ولسانًا وشفتين، كل ما على الأرض وما في السماء خلقه، بل والأرض والسماء خلقه، فأين خلق غيره؟!
بارئ: يبري الخلق بعد أن يوجدهم للحياة، فيفصل بعضهم عن بعض، فالباري هو الذي يبري ويبدع التفصيل، كمن يصنع القلم الرصاص، فإن القلم يكون غير صالح للكتابة إلا إذا براه، فلا بد للقلم من بارٍ يبريه، فإذا براه فقد هيأه للكتابة، فكذلك الخالق سبحانه وتعالى، ولله المثل الأعلى أوجد الخلق، وأصلحهم وهيأهم للحياة.
مصور: هو الإله الذي خلق فأوجد، والذي برى ففصل، والذي صوّر فأبدع، من أرض وسماء، وشمس وقمر، ونجوم وكواكب، وما بينهما من ماء وهواء ونبات وجماد ومخلوقات تملأ الكون جمالًا وإجلالًا، تنطق بعظمة المصوّر، فإذا نظر الإنسان إلى عينه فقط بحجمها الصغير، وما يتم فيها من عمليات معقدة في جزء من الثانية لتحدث عملية الإبصار، كل ذلك والإنسان لا يشعر بشيء، وكذلك كل ما حولنا من أرض وسماء ليس هناك اختلال في شيء، فسبحان المصوّر.
أوّل آخر: سابق على الموجودات، ومنه المبدأ أوّلًا وهو الذي إليه مصير الموجودات، وإليه المرجع والمصير آخرًا. وهو الأول قبل الزمان وقبل خلق العالم حينما كان ولا شيء معه، وهو الآخر بعد أن ينتهي الزمان وينتهي العالم ويعود كل شيء إليه سبحانه.
ظاهر باطن: ظاهر فليس فوقه شيء، باطن فليس دونه شيء. وهو الظاهر بأفعاله والباطن بذاته .
حي قيوم: دائم الحياة التي لم تُسبق بموت، ولم يطرأ عليها موت، عظيم القيومية على كل شيء، ولولا قيوميته على الخلائق ما استقام من أمر العوالم شيء. فهو القائم بعنايته على كل شيء من الذرة وما هو أصغر منها إلى المجرّة وما هو أكبر منها.
علي: الذي لا رتبة فوق رتبته، ولا شيء فوقه ولا يغلبه شيء.
عظيم: كل شيء أمام عظمته صغير حقير، ولا يتصوّر العقل أن يحيط بكنه حقيقته، فهو عظيم في العلم والعمل، عظيم في الرحمة والحكمة، عظيم في كمال القدرة.
عليم: يحيط علمًا بكل شيء، ظاهره وباطنه، دقيقه وجليله، أوّله وآخره، عاقبته وفاتحته.
حليم: لا يعجّل بالعقوبة؛ يشاهد معصية العصاة، ويرى مخالفة الأمر ثم لا يعتريه غضب ولا غيظ، ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام، أو الامتناع عن إيصال الرحمة، مع غاية في الاقتدار.
عفو: لا يؤاخذ على كل ذنب، فهو يعفو عن سيئات عباده، ولولا عفوه لأهلكهم جميعًا.
غفور: تام الغفران كامله، حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة.
سميع: مطلق السمع لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفي.
بصير: البصير بذاته فهو يشاهد ويرى كل شيء ولا يخفى عنه شيء.
حق: الذي يضاد الباطل، فهو الحق المطلق، والموجود الحقيقي بذاته، الذي يأخذ منه كل حق حقيقته، وهو الذي يكون وجوده ثابتًا لذاته أزلًا وأبدًا، ومعرفته حقًا أزلًا وأبدًا، وكل ذلك لذاته فقط لا لغيره.
كبير: ذو الكبرياء وكمال الذات، فهو كبير في ذاته.
لطيف: الذي يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دقّ منها وما لطف، ثم يسلك في إيصاله إلى المستحق سبيل الرفق بطرق خفيّة عجيبة.
خبير: لا تعزب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري في الملك والملكوت شيء، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطر بنفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبره.
غني: غنى ذاتي لا يفتقر معه إلى شيء أبدًا.
حميد: محمود مثنى عليه، فهو الحميد بحمد نفسه أزلًا، وبحمد عباده له، ويرجع ذلك إلى صفات الجلال والعلو والكمال، منسوبًا إلى ذكر الذاكرين له.
رؤوف: ذو الرأفة، والرأفة شدة الرحمة، لكن الرأفة أميل إلى جانب إيصال النفع، والرحمة أميل إلى جانب دفع الضرر، فهو بمعنى الرحيم مع المبالغة.
قهّار: الذي يقصم ظهور الجبابرة من أعدائه، وهو الذي لا موجود إلا وهو مسخّر تحت قهره وقدرته، وعاجز في قبضته.
غفّار: الذي أظهر الجميل وستر القبيح، وغفر الذنوب، وأسقط العقاب عن المذنبين، فهو الذي يغفر الذنب وإن تكرّر، وأصل المغفرة الستر.
توّاب: الذي ييسر أسباب التوبة لعباده مرّة بعد أخرى.
وهّاب: صاحب الهبات والعطايا الخالية عن الأعواض والأغراض.
ولي: محب ناصر لأوليائه المؤمنين.
ودود: الذي يحب الخير لجميع الخلق، فيحسن إليهم، وهو قريب من معنى الرحيم، ولكن الرحمة مضافة إلى مرحوم، والمرحوم هو المحتاج والمضطر، وأفعال الرحيم تستدعي مرحومًا ضعيفًا، وأفعال الودود لا تستدعي ذلك، بل الإنعام على سبيل الابتداء من نتائج الود، برّ منه كل مبرّة وإحسان.
خلّاق: كثير المخلوقات.
رازق : الذي خلق الأرزاق، وأوصلها إلى خلقه، وخلق لهم أسباب التمتع بها.
قوي: والقوة هي القدرة التامة، فالإله سبحانه وتعالى بالغ القدرة تامها.
متين: والمتانة تدل على شدة القوة، فشديد القوة يسمى متين.
فتّاح: الذي بعنايته يفتح كل مغلق، وبهدايته ينكشف كل مشكل، وبيده مفاتح الغيب ومفاتح الرزق.
قدير: على كل شيء يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرِم الفاني، وهو على كل شيء قدير.
واسع: ذو السعة المطلقة من العلم والإحسان وبسط النعم.
كريم: الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجا، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى، وإن وقعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفى عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجأ، ويغني عن الوسائل والشفعاء.
رقيب: الذي يراقِب ولا يراقَب، ويلاحِظ ولا يلاحَظ، ويدرِك ولا يدرَك، العليم بكل شيء، الحفيظ لكل شيء، المترصّد، المراعي الذي لا يغفل عن شيء، الذي يسمع ويرى، الحاضر الذي لا يغيب.
مجيب: الذي يجيب الداعين، ويعطي السائلين، ويكفي المضطرين، قد علم حاجة المحتاجين قبل أن يخلقهم فدبّر لهم الأمر.
مليك: تعالى أمره في الملك.
مقتدر: تعالى أمره في القدرة، فهو ذو القدرة الحكيمة الذي يفعل ما يشاء ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، له الإرادة المطلقة والمشيئة المحقّقة، القادر على كل شيء، ولا يقدر عليه شيء، القادر بذاته المقتدر بصفاته، المتمكّن المتحكّم في ملكوته، الذي لا رادّ لقضائه، ولا دافع لقدره، الذي يملك ويحكم ولا معقّب لحكمه، ويأمر وينهى ولا رادّ لأمره.
حكم: فهو الحكم الأكبر الذي لا يظلم عنده أحد، ولا يخفى عليه شيء، يحكم بالحق، وقد أحكم الله آياته في السماوات والأرض، كل يسير وفق نظام وإحكام لا تبديل ولا تغيير ولا تقدم ولا تأخر فيه، فقد أحكمها الله ولم يتركها لحكم الخلق؛ لأنه لو تركها لحكم الخلق أهلك بعضهم بعضًا، إذ لا يتصوّر متصوّر أن يترك الإله نعمة كنعمة الهواء أو الماء في أيدي الخلق؛ لأنه لو تركها في أيدي الخلق لتطاحنوا عليها، ولو أراد أحدهم أن يهلك الآخر، لمنع عنه الهواء، ولقطع عنه الماء، ولكن برحمته وفضله جعل الهواء عامًا لا يملكه إلا هو، والماء عذبًا زلالًا يجري أنهارًا بأمره وحكمه، فهو الحكم الأكبر فلا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه.
مجيد: الشريف في ذاته، الجميل في أفعاله، الجزيل في عطائه ونواله، فشرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمي مجدًا.
شاكر: الذي يثيب على الطاعة، يقبل اليسير ويعطي الجزيل، شكور وهي مبالغة من الشاكر، فالشكور هو الذي يحب ولا ينبذ، ويعطي ولا يأخذ وهو الذي يجزي القليل بالجزيل، والصغير بالكبير، والحبّة بمئة حبّة، والحسنة بعشرة أمثالها، والضعف بسبعمئة ضعف وقد يزيد.
أعلى: لا شيء أعلى منه، فما من عالٍ إلا وهو أعلى.
قادر: ذو القدرة، الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل.
أكرم: الزائد في الكرم على كل كرم؛ فإنه سبحانه وتعالى ينعم بلا عوض، ويحلم من غير تخوّف، بل هو الكريم وحده على الحقيقة.
كفيل: الرقيب والشاهد والضامن.
نصير: لا مثيل له في النصرة، فإذا نصر عبدًا لا يستطيع الكون كله هزيمته.
حفي: بارّ بعباده كريم معهم.
حفيظ: الذي يحفظ فلا ينسى، ويحفظ فيصون، وحفظ الله ليس كحفظ الناس، فإذا حفظ الأمين من الناس شيئًا فإن ذلك الحفظ يكون بردّ هذا الشيء كما هو دون نقص؛ أما حفظ الله، فهو حفظ الشيء كما هو وزيادته إلى الأحسن، فإذا اُستودِع الله شيئًا حفظه وزاده، وهو خير من يحفظ الودائع، فإذا استودعته أهلك ومالك، فإن الله يحفظهما لك بالتمام أوّلًا، وبالزيادة ثانيًا، فالحفيظ المطلق هو.
مقيت: المقتدر العليم، الذي يقدر ولا يُقدر عليه، والأمر منه وإليه، وهو على كل شيء قدير، الذي يطعم ولا يُطعم، والأقوات كلها بيديه.
هادي: فهو المرشد والدليل؛ الذي هدى الأسماع إلى التحصيل، والأبصار إلى المشاهدة، والألباب إلى التدبير، والقلوب إلى المعرفة، والأيدي إلى العمل، وهدى عباده بآياته لمعرفة ذاته، وهدى الكون كله حتى يعمل الكل في إحكام، ويُسَيّر الكون في نظام وتوافق وانسجام، فهو الهادي المطلق الذي يملك القلوب ومفاتيحها، فيفتح لها ما يشاء ويغلق ما يشاء.
حسيب: كافٍ وافٍ، الذي يكفي الوجود كله، بطريق مباشر وغير مباشر، فما من شيء إلا وهو كافيه دون أن ينقص ذلك من ملكه شيئًا، وهو الحسيب الذي يحاسب عباده على ما قدموا من حسنات وسيئات، وهو الحسيب الشريف الذي له خصائص الشرف؛ فالحسب لله بمعنى أن صفات المجد والشرف ونعوت الكمال والجلال ليست إلا له سبحانه وتعالى.
صادق: فليس هناك أحد أكثر صدقًا منه، فإنه لا يتطرّق الكذب إلى خبره بوجه من الوجوه، لأنه نقص، وهو محال عليه.
وارث: الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك، وإليه مرجع كل شيء ومصيره. وهو كذلك "رب العالمين"، و"مالك يوم الدين"، و"نور السماوات والأرض"، و"غافر الذنب وقابل التوب"، و"محيي الموتى"، و"عالم غيب السماوات والأرض"، و"علام الغيوب"، و"بديع السماوات والأرض"، و"فاطر السماوات والأرض"، و"جامع الناس ليوم لا ريب فيه".
حنّان منّان: يحن على عباده ويمن عليهم بكريم عطاياه.
سبّوح: المبرأ من النقائص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية.
شافٍ: يشفي المرضى، فبيده الشفاء كله لا يعجزه داء، فهو الذي ينزل الداء ويجعل له الدواء.
حيي: يستحي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين.
ستير: يستر عباده وهم يعصونه، ويحب لهم الستر.
جوّاد: لا حد لجوده، ولا حد لكرمه، يعطي بلا حساب.
طيّب: منزه عن النقائص والخبائث، طيب في ذاته، طيب في صفاته.
ماجد: الشريف ذو المجد والسؤدد، ولا ماجد مطلقًا إلا الرب الجليل، الذي له المجد في السماوات والأرض، وله الحمد فيهما، وله الكبرياء.
محسن: يحسن إلى عباده لا سيما الطائعين منهم.
رفيق: بعباده، يحب الرفق في الأمر كله.
جميل: يحب الجمال.
وتر: يحب الوتر، فهو واحد لا شريك له.
مقدّم مؤخّر: الذي يقرّب ويبعّد في الرتبة، ومن قرّبه فقد قدّمه، ومن أبعده فقد أخّره.
قابض باسط: يقتر على من يشاء ويوسع على من يشاء على حسب ما يرى من المصلحة لعباده، ويقبض الأرواح عند الموت، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة، ويقبض القلوب فيضيّقها، ويبسط القلوب بما يتقرّب إليها من برّه ولطفه وجماله.
صفات الخالق والمخلوقين:
تختلف الصفات التي يتّصف بها الله عزّ وجلّ عن صفات المخلوقين؛ فالله عالم، وفلان عالم، ولكن علم الله يختلف عن علم فلان؛ فعلم الله لا يتناهى كماله، ولا يعد علم المخلوقين شيئًا إلى جانبه، وكذلك حياته، وكذلك سمعه وبصره، وكذلك كلامه، وقدرته وإرادته، فصفات الله عزّ وجلّ تختلف عن صفات المخلوقين، من حيث الكمال والكيفية، اختلافًا كليًّا، فإنه سبحانه وتعالى لا يشبه أحدًا من خلقه.(23)
هذا هو الله:
الله.. هي كلمة علم على الرب تبارك وتعالى، على الذات المقدّسة، وتجمع جميع هذه المعاني، ولم يتسمّ بها أحد إلا هو جلّ جلاله، وهو الموصوف بجميع هذه الصفات السابقة.
وقد يتّصف العبد بشيء يسير جدًّا من معاني أسماء اللَّه الحسنى، إلا اسم الجلالة (اللَّه).
فقد تفرَّد الحق سبحانه وتعالى به وحده وخصّ به نفسه فلم يسم به غيره ولم يتصف به غيره.
الله.. الكلمة الوحيدة في اللغة العربية التي ليس لها مرادف، وليس لها مصدر اشتقاق، ولا تُجمع.
أحرفه الثلاثة (ا لــ هـ) من أجمل الحروف وأسهلها لفظًا وكتابة. وهي أحرف مشتركة في جميع لغات العالم.
وهي نفسها حروف كلمة التوحيد "لا إله إلَّا اللَّه".
ومن عظمة اسم "اللَّه".. أن مكوّنات أحرفه، دون الأسماء جميعها، تخرج من خالص الجوف لا من الشفتين.
اسم (الله) هو الاسم الجامع لمعاني الألوهية، الدال على استحقاقه للعبوديّة، وقد عبّر الغزالي عن هذا المعنى بقوله: "اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية المنعوت بنعوت الربوبية".
وأولى منه تفسير ابن عباس -رضي الله عنه- للفظ الجلالة حيث قال: "الله ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين" فقد جمع في تفسيره بين أمرين: بين صفة الله الدالة عليه، وهي الألوهيّة، والصفة المتعلّقة بالعباد من هذا الاسم، وهي العبوديّة.
وليس له هذا الاسم فقط، بل له الأسماء الحسنى، التي سبق ذكر معانيها، وهي أسماء كثيرة، فهو الله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ المصوّر، الأوّل الآخر الظاهر الباطن، السميع البصير، المولى النصير، العفو القدير، اللطيف الخبير، الوتر الجميل، الحيي الستير، الكبير المتعالي، الواحد القهار، الحق المبين، القوي، الحي القيّوم، العلي العظيم، الشكور الحليم، الواسع العليم، التوّاب الحكيم، الغني الكريم، الأحد الصمد، القريب المجيب، الغفور الودود، الولي الحميد، الحفيظ المجيد، الفتّاح الشهيد، المقدّم المؤخّر، المليك المقتدر، القابض الباسط، الرازق، القهار الديان، الشاكر المنان، القادر الخلّاق، المالك الرازق، الوكيل الرقيب، المحسن، الحسيب، الرقيب، الشافي، المعطي المجيب، السيد الطيب، الحكم الأكرم، البر الغفار، الرؤوف الوهاب، الجواد السبوح، الوارث، الرب، الأعلى، الإله.
واجبنا نحو هذا الإله:
إن واجبنا أن نؤمن به، ونعبده، ونتّبع أمره ونهيه، وأوّل ما يجب علينا تجاه هذا الإله أن نوحّده، فما هو معنى التوحيد؟
التوحيد في اللغة: الحكم بأن الشيء واحد، والعلم بأنه واحد.(24)
تقول وحدت الشيء أي جعلته منفردًا عما يشاركه أو يشبهه في ذاته وصفاته، والتشديد للمبالغة، وأصل معنى التوحيد، اعتقاد أن الله واحد لا شريك له.(25)
أنواع التوحيد:
عندما يُطلق التوحيد في الإسلام فإنه يعني ثلاثة أنواع؛ هي:
توحيد الربوبية: هو تفرُّد الله سبحانه وتعالى بالخلق والرزق، والإحياء والإماتة والتدبير، وأنه النافع الضار، المنفرد بإجابة الدعاء، والأمر كله بيده، وبيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، ليس له في ذلك شريك، وهذا لا يكفي في الإيمان، فلا يكفي أن تعرف أن الله خلقك وخالق كل شيء، ورزقك ورزق كل شيء، بل لا بد من أن تعبده، وهذا هو القسم الثاني.
توحيد الألوهية: أن تفرده بالعبادة، فلا تشرك معه أحدًا من خلقه؛ لأنه وحده المستحق لأن يُعبد، فتتوجه إليه بالعبادة دون سواه، سواء كانت هذه العبادة من أعمال الجوارح أو من أعمال القلوب.
فإذا علمت أن الله هو الذي خلقك ورزقك ودبّر لك أمرك (وهو توحيد الربوبية) فلا بد من أن تعبده (وهذا هو توحيد الألوهية).
توحيد الأسماء والصفات: أن تثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وأثبته له رسوله وتنفي عنه ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله من الأسماء والصفات التي ذكرت آنفًا.(26)
الرسالة نفسها:
أخي في الإنسانية.. هذا هو ملخّص العقيدة التي أتى بها دين الإسلام في الإله، هكذا يعرّفنا الإسلام على الله خالقنا، فهل تقارَن بعقيدة من العقائد الأخرى؟ أيًّا كانت تلك العقيدة؟ إنها العقيدة الوحيدة التي تتفق مع معطيات العقل، وتتوافق وتنسجم، تمام التوافق والانسجام، مع ما توصّل إليه العلماء من صفات خالق هذا الكون العظيم.
لكن ما مصدر تلك العقيدة؟
إن مصدر تلك العقيدة هو الله ذاته.
كيف أوصل هذه العقيدة إلينا؟
أوصلها إلينا عن طريق رسوله.
فمن رسوله؟
إنه محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلّم- خاتم الرسل الذين أرسلهم الله إلى خلقه، ليعرفهم به.
فما الدليل على صدق هذا الرسول؟
إنها الرسالة نفسها... فما هذه الرسالة؟
إنها القرآن الكريم، الكتاب الذي أُنزل على هذا الرسول، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، اشتمل على تلك العقيدة السويّة، واشتمل على دستور كامل ينظّم علاقة الإنسان بربّه، وعلاقته بالكون، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بنفسه.
---------------------------------------
هوامش أهم المصادر والمراجع:
(1) سعيد حوى، الله جل جلاله، ص109 و110.
(2) إدوارد لوثركيسيل، مقالة بعنوان: فلننظر إلى الحقائق دون مللأ وتحيز، ضمن كتاب الله يتجلى في عصر العلم، ص33.
(3) أحمد زكي، مع الله في السماء.
(4) رونالدرو برتكار، مقالة بعنوان: موجهات جيولوجية، ضمن كتاب الله يتجلى في عصر العلم، ص91.
(5) إدوارد لوثركيسيل، مقالة بعنوان: فلننظر إلى الحقائق دون ميل أو تحيز، ضمن كتاب الله يتجلى في عصر العلم، ص 33 و34.
(6) فرانك ألن، مقالة بعنوان: نشأة العالم هل هو مصادفة أم قصد، ضمن كتاب الله يتجلى في عصر العلم، ص 13 – 16.
(7) ميريتستان ليكونجدن، مقالة بعنوان: درس من شجيرة الورد، ضمن كتاب الله يتجلى في عصر العلم، ص 25 و26.
(8) جونكليفلاند كوثران، مقالة بعنوان: النتيجة الحتمية، ضمن كتاب الله يتجلى في عصر العلم، ص 28 و29.
(9) توماس دافيد باركسن، مقالة بعنوان: الماء يروي لك القصة، ضمن كتاب الله يتجلى في عصر العلم، ص 49 – 51.
(10) حسان منان، مقدمته لكتاب إثبات وجود الله في كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب، ص 84.
(11) مجموعة رسائل الإمام حسن البنا، ص 304.
(12) مقدمة حسان منان، ص 3.
(13) سعيد حوى، الله جل جلاله، ص111 – 114.
14) سعيد حوى، الله، ص127 و128.
(15) مقدمة حسان منان لكتاب إثبات وجود الله، ص39.
(16) مقدمة حسان منان لكتاب إثبات وجود الله، ص 34.
(17) سيد قطب، إثبات وجود الله، ص87.
(18) أحاديث إلى الشباب عن العقيدة والنفس والحياة في ضوء الإسلام، للأستاذ أنور وجدي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، العدد 165، 15 ذي الحجة، 1394، 26 ديسمبر1974.
(19) عباس العقاد، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه.
(20) عباس العقاد، الله، ص 109 – 111.
(21) دار الافتاء المصرية، فتوى الأزهر بعنوان: "الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان"؛ الرقـم المسلسل (4307).
(22) مصطفى محمود؛ الله؛ القاهرة: أخبار اليوم، 2001.
(23) انظر أسماء الله الحسنى ومرادفاتها وتأويلاتها، محمد عبدالمجيد الزميتي، ط3، 1998، 1419، مكتبة الآداب، القاهرة، ص8: 29، وأسماء الله الحسنى في معتقد أهل السنة والجماعة، عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 2000، 1421ه، ص، وأيضًا تفسير البيضاوي، مختصر تفسير ابن كثير، ج3.
(24) التعريفات، الجرجاني، ص 96.
(25) الشيخ محمد عبده، رسالة التوحيد، ص 8.
(26) مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، عثمان جمعة ضميرية، ط3، 1999م، 1420ه، مكتبة الوادي، ص 223 – 229.