القرآن العظيم.. كلام اللَّه سبحانه وتعالى.
إعجازٌ في القول وإحكام في النظم وصدقٌ في الخبر.
فضله على سائر الكلام كفضل اللَّه عزّ وجلّ على خلقه.
إن لكلِّ شيء سيدًا، وسيد الكلام العربية، وسيد العربية القرآن.
وإن أكمل الألسنة لسان العرب، وأكمل البلاغة بلاغة القرآن.
فالقرآن العظيم كتاب مُحكم في مقاصده وبنائه واتساقه.. في نظم حروفه وكلماته وآياته.
وإن موقع كل حرف من حروفه مضبوط وفق موازين اتسق عليها حسن بيانه وروعة نظمه.
وكل حرف فيه له نظام معجز، وله دلالة واضحة تتفاعل مع المعنى الذي يرمي إليه اللفظ.
من عجائب القرآن الكريم التي لا تنقضي، تفاصيل لغوية دقيقة، من بينها واو الثمانية، وهي واو عطف تأتي بعد سبع صفات مذكورة على نسق واحد من غير عطف وتدخل على الصفة الثامنه لتعطفها على ما سبق. وقد تأتي واو الثمانية لتدل على أن المعبّر عنه عدده ثمانية إما بشكل صريح أو معنوي يُعرف من معنى النص.
ولكن يرجى الانتباه إلى أن واو الثمانية في القرآن الكريم لا تأتي مع الصفة الثامنة إلا إذا كان هناك شرط التنافي بين الصفة السابعة والصفة الثامنة، فإن لم يكن التنافي بينهما جاز ذكر الواو وجاز عدم ذكرها.
وقد جاءت واو الثمانية في القرآن الكريم في المواضع الآتية:
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُوْنَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) التوبة
الآية جاءت في سورة التوبة وهي السورة رقم 9 في ترتيب المصحف، وتقدم الآية تسع صفات للمؤمنين، ونلاحظ أن واو الثمانية دخلت على الصفة الثامنة "الناهون عن المنكر" لتعطفها على الصفات السبعة السابقة لها.
في موضع آخر جاءت في سورة الكهف، ولكن بشكل مختلف، وفي هذه الآية:
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) الكهف
الآية تذكر الاختلاف في عدد أصحاب الكهف وذكرت ثلاثة أقوال وفي القولين الأول (ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ) والثاني (خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ) لم تذكر واو العطف معهما، أما في القول الثالث (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ) فقد دخلت واو الثمانية على الرقم ثمانية.
وقريب من ذلك جاءت واو الثمانية في سورة الزمر لتدل عن أن المعبّر عنه عدده ثمانية:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) الزمر
جاءت الآية الأولى في حق الكفار، فقال سبحانه وتعالى: (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)!
وجاءت الآية الأخيرة في حق المتقين، فقال سبحانه وتعالى: (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)!
ولكن لماذا جاءت واو الثمانية عند الحديث عن أبواب الجنة؟
ببساطة لأن أبواب الجنة عددها ثمانية!
وأبواب جهنم لم تقترن بواو الثمانية لأن عددها سبعة أبواب!
تأمّلوا دقة النظم القرآني!
وفي موضع آخر جاءت واو الثمانية في سورة التحريم في هذه الآية:
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) التحريم
ففي الآية بعض صفات المرأة الصالحة، ودخلت واو الثمانية على الصفة الثامنة منها "أبكارا"، وهي صفة مغايرة للصفة السابعة لأن المرأة إما أن تكون بِكرًا أو ثـِيبًا ولا يمكن أن تجمع بين الصفتين في آن واحد.
إن تسمية "واو الثمانية" لم تلق رضا العديد من علماء اللغة، وسماها كثير منهم بغير واو الثمانية، وذهب بعضهم إلى أنها واو حال، أو واو عطف، أو واو زائدة، أو واو تقسيم. فلن نخوض في هذا الجدال اللغوي بشأن هوية واو الثمانية، ولكن سوف نختبر هذه الواو ودقة موقعها من ناحية رقمية..
فتأمّلوا معي أوّل موضع ترد فيه واو الثمانية في القرآن الكريم:
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُوْنَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) التوبة
العجيب أن واو الثمانية في هذه الآية ترتيبها رقم 64 بين حروف الآية وهذا العدد يساوي 8 × 8
وكما هو واضح أمامكم فإن الآية عدد كلماتها 16، ويساوي 8 + 8
والأعجب من ذلك كله أن هذه الآية رقمها 112، ويساوي 8 × 14
والعدد 14 هو تكرار حرف الواو في الآية نفسها!
والعدد 14 هو عدد الحروف المضمومة في الآية نفسها! والضمّة بنت الواو!
تقسّم واو الثمانية الآية نصفين: 8 كلمات قبلها و8 كلمات بعدها!
وكما هو واضح أمامكم فإن الآية تبدأ بكلمة من 8 أحرف وتنتهي بكلمة من 8 أحرف!
واو الثمانية ترتيبها من بداية الآية رقم 64 وترتيبها من نهاية الآية رقم 46
تأمّلوا ظاهرة التعاكس بين العددين 64 و46
عندما عكسنا اتجاه العد انعكس العدد نفسه!
انتبهوا إلى أن هذا المشهد الذي نستعرضه هنا وفق قواعد الإملاء الحديثة..
والآية أمامكم الآن ويمكنكم أن تتأكدوا بأنفسكم من كل هذه الحقائق الآن..
وهذه دعوة للذين يتوهَّمون أن القرآن لا يتجلّى إعجازه الرقمي إلا من خلال الرسم العثماني!!
حاولوا أن تتوصلوا إلى هذه النتائج من خلال الرسم العثماني وستجدون أن كل هذه الموازين سوف تختل!
لقد ورد وحرف الواو في 128 آية من آيات سورة التوبة، وهذا العدد يساوي 8 × 8 + 8 × 8
وهذا يعني أن هناك آية واحدة فقط من آيات سورة التوبة لم يرد فيها حرف الواو وهي هذه الآية:
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) التوبة
العجيب أن هذه الآية هي أقصر آيات سورة التوبة!
والأعجب من ذلك أن هذه الآية عدد كلماتها 8 كلمات!
انتبهوا جيدًا إلى رقم الآية! لماذا جاء رقمها 22 تحديدًا؟!
الآية الوحيدة التي لم يرد فيها حرف الواو في سورة التوبة رقمها 22 لأن أكبر تكرار لحرف الواو في آيات سورة التوبة هو 22 وجاء في هذه الآية:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) التوبة
حرف الواو تكرّر في هذه الآية 22 مرّة!
الآن تأمّلوا آية واو الثمانية من جديد:
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُوْنَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) التوبة
فلماذا دخلت واو الثمانية على كلمة (النَّاهُونَ) تحديدًا؟!
إليكم الإجابة من خلال هذه الحقائق الرقمية المذهلة:
الحرف |
ترتيبه الهجائي |
ا |
1 |
ل |
23 |
ن |
25 |
ا |
1 |
هـ |
26 |
و |
27 |
ن |
25 |
المجموع |
128 |
هذه هي أحرف كلمة (الناهون) ومجموع ترتيبها الهجائي 128
128 هو عدد آيات سورة التوبة التي ورد فيها حرف الواو!
وفي الحالتين فإن العدد 128 يساوي 8 × 8 + 8 × 8
ما رأيكم في هذه الحقائق الرقمية القرآنية الدامغة؟
العجيب أن الآية جاءت في سورة التوبة وهي السورة رقم 9 في ترتيب المصحف، وتقدم الآية 9 صفات للمؤمنين، وتتضمن الآية 9 كلمات عدد أحرف كل واحدة منها 8 أحرف، بينما تتضمّن كلمة واحدة عدد أحرفها 9 أحرف! ونلاحظ أن واو الثمانية جاءت كجزء من الكلمة الثامنة ضمن الكلمات التي عدد أحرفها 8 أحرف!
تأمّلوا عظمة نظم القرآن! وتأمّلوا كيف يضبط القرآن موقع الكلمة على مستوى الآية أولًا، ثم يضبطها على مستوى السورة، ثم يضبطها على مستوى الكلمة، ثم يضبط ترتيب الحرف في قائمة الحروف الهجائية!
تأمّلوا كل هذه المتغيِّرات، وأكثر منها، يعالجها القرآن في موضع واحد فقط!
من يستطيع ذلك غيره سبحانه وتعالى؟! إنه كلامه لا ريب!
النسيج الرقمي القرآني في منتهى الروعة ولكنه على درجة عالية من التعقيد!
-------------------------------------
المصدر:
مصحف المدينة المنوّرة برواية حفص عن عاصم (وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة).