وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيْمُ الْعَلِيْمُ (84) الزخرف
ربما تُعرِضُ النفوسُ المريضةُ والقلوبُ المتحجّرةُ، وتَرفْضُ وتُنْكِرُ وجودَ الله الواحد سبحانه وتعالى، مع أنها تحيا على أرضه وتحت سمائه، وتنعم بفضله، وتنغمس في نعمه العظيمة التي لا تعدّ ولا تحصى. فكيف لهم أصحاب هذه النفوس بعد سوابغ إنعامه، وجزيل إكرامه، وامتنان أفضاله، أن يجحدوا وجوده، ويشركوا معه غيره من مخلوقاته؟! أليست فطرتهم التي خلقها الله نقية تستنجد بالله الواحد في أوقات الشدّة والأزمات؟ فلماذا طمسوها وكانوا في مواجهة معها، فهي تريد الإقرار بوحدانية خالقها، وهم يريدون أن يغطّوا على حقيقة ثابتة بكل الأدلة العقلية والمنطقية؟!
الإله هو المعبود مطلقًا حقًّا كان أو باطلًا، قال ابن منظور- رحمه الله-: "الإله: الله عزّ وجلّ وكل ما اتخذ من دونه معبودًا إلهًا عند متّخذه، والجمع آلهة، والآلهة: الأصنام"، فهناك إله حقّ وإله باطل، وليس من إله حقّ إلا الله سبحانه وتعالى، فهو معبود أهل السماء ومعبود أهل الأرض، وهو وحده الإله المعبود بحق، وليس من إله يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى. وتوحيد الألوهية يعني إفراد الله وحده بالعبادة والبراءة من الشرك وأهله، وهو محل الخصومة بين الرسل وأممهم، ومناط النجاة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا كثُرت أدلّته في ما لا يكاد يُحصى.
إنَّ أكثر الناس يقرّون بربوبيَّة الله سبحانه وتعالى، وإنَّما كان سبب شركهم وكفرهم عدم إقرارهم بتوحيد الألوهيَّة، فقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُوْلُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُوْنَ (87) الزخرف؛ فكيف إذًا يصرفون عن الإيمان بألوهيته بعد اعترافهم بربوبيته. بل هناك بعض المنتسبين إلى الإسلام قد يصرفون العبادة لشخص ميْت بالتوسّل إليه، أو النذر له، أو غير هذا من الأمور، ويظنون أنَّ ذلك وسيلة تقربهم إلى الله، وهذا هو عين الشرك الذي كان يقع فيه المشركون في الجاهلية. ولقد توافرت الأدلة الشرعية والعقلية والمنطقية على ألوهيَّة الله سبحانه وتعالى، فمن ذلك:
أولًا: الفطرة
إن الخلق مفطورون على الإقرار بالخالق سبحانه وتعالى بلا ريب، كما أنهم مجبولون على حب الخير وكراهية الشر، بل إن الإقرار بوجود الخالق من أشد الأمور رسوخًا وثباتًا في الفطرة بما لا يحتاج معه ثمة دليل أو برهان. لقد فطر الله سبحانه وتعالى عباده على أنَّه ربُّهم، وأنَّه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُوْرِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُوْلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِيْنَ (172) أَوْ تَقُوْلُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُوْنَ (173) الأعراف.
فهذا هو ميثاق الفطرة الذي جاء في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النبي– صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ- أَحْسَبُهُ قَالَ- وَلاَ أُدْخِلَكَ النَّارَ فَأَبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ". وقد أخرج ابن جرير عن جويبر قال: مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام فقال: إذا وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه وحل عقده، فإنَّ ابني مُجْلَس ومسؤول، فقلت: عمّ يُسأل؟! قال: عن الميثاق الذي أقرّ به في صلب آدم، حدثني ابن عباس: أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفّل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أُعطي الميثاق يومئذٍ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأوّل، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقرّ به لم ينفعه الميثاق الأوّل، ومن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأوّل وعلى الفطرة.
فالإيمان بالخالق، واللجوء إليه، وأنَّه لا إله إلا هو أمر فطري، ومما يؤيّد ذلك: ما يظهر بوضوح إذا أصيب الناس بخوفٍ شديدٍ كالخوف من الغرق في البحر، فإنهم في هذه الحالة لا يتضرّعون إلَّا إلى الله سبحانه وتعالى وحده؛ لكي ينجيهم من الغرق، ويخرجهم إلى البرِّ سالمين، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيْحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيْحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الشَّاكِرِيْنَ (22) يونس.
ويقتضي إيمانك بالله خالقًا، ومربيًا، ومسيراً، وواحدًا في وجوده، واحدًا في صفاته، واحدًا في أسمائه، يقتضي إيمانك بكماله أن تعبده، وأن تتوجه إليه، وأن تفرده بالعبادة، وأن تتوكل عليه، وأن تستعين به، وأن ترجوه، وأن تسأله، وأن تستغفره، لذلك من مقتضيات الإيمان بالله رب العالمين: أن تفرده بكل أنواع العبادات الظاهرة والباطنة، وأن الله وحده هو المستحق للعبادة.
ثانيًا: انتظام الكون وإحكامه
إنَّ انتظام هذا الكون أكبر برهان على أنَّ خالقه ومدبُّره واحد، وأنَّ كلَّ ما سواه مربوب محدث كائن بعد أن لم يكن، وكما يمتنع وجود خالقين لهذا الكون، فكذلك يمتنع وجود إلهين، فقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُوْنَ (21) لَوْ كَانَ فِيْهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُوْنَ (22) الأنبياء.
فلو فُرض أن في السماء والأرض إلهًا غير الله لفسدتا، ووجه الفساد أنه إذا كان مع الله إله آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادرًا على الاستبداد والتصرف، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف، ويحدث بسببه الفساد، وإذا كان البدن يستحيل أن يكون المدبّر له روحين متساويين، ولو كان كذلك لفسد وهلك، وهذا محال، فكيف يتصور هذا في الكون وهو أعظم؟!
وقال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُوْنَ (91) المؤمنون، فلو كان مع الله سبحانه وتعالى إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه لَفَعَل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض كلٌ بملكه إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلا بدّ من أحد ثلاثة أمور: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه، فالنتيجة أن المتفرد واحد، وما دام أن الكون عَلَى انتظام دائم ولم يحدث أي تعارض ولا تصادم فيه، فإنَّه أدلُّ برهانٍ على أنَّ الإله واحد سبحانه وتعالى.
ولذلك استدلَّ إبراهيم -عليه السَّلام- بأفعاله المحكمة المتقنة من طلوع الشمس وغروبها، وظهور القمر وغيبته، وظهور الكواكب وأفولها على وحدانيته وألوهيته دون من سواه، فقال تعالى حكايةً عن إبراهيم -عليه السلام-: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيْمَ مَلَكُوْتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُوْنَ مِنَ الْمُوْقِنِيْنَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِيْنَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِيْ رَبِّي لَأَكُوْنَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّيْنَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُوْنَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيْفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ (79) الأنعام.
قال ابن القيم -رحمه الله-: وأصل فساد العالم إنَّما هو من اختلاف الملوك والخلفاء، ولهذا لم يطمع أعداء الإِسلام فيه في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدُّد ملوك المسلمين واختلافهم، وانفراد كل منهم ببلاد، وطلب بعضهم العلوَّ على بعض. فصلاح السماوات والأرض واستقامتهما، وانتظام أمر المخلوقات على أتمِّ نظام من أظهر الأدلَّة على أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، وأنَّ كل معبود من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل إلا وجهَه الأعلى. وقال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُوْلُوْنَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيْلًا (42) الإسراء، أي لابتغَوا السبيلَ إليه بالمغالبة والقهر، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، ويدلّ عليه قوله في الآية الأخرى: .. وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُوْنَ (91) المؤمنون، وقال ابن تيمية: لابتغوا إليه سبيلًا بالتقرُّب إليه وطاعته، فكيف تعبدونهم من دونه، وهم لو كانوا آلهةً كما تقولون لكانوا عبيدًا له؟ قال: ويدلُّ على هذا وجوه: منها: قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ يَبْتَغُوْنَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُوْنَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوْرًا (57) الإسراء، أي هؤلاء الذين تعبدونهم من دوني هم عبادي، كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، فلماذا تعبدون عبيدي من دوني؟!
ثالثًا: الانفراد بالخلق والملك والتدبير
إنَّ هذا الكون له خالق؛ إذ إنَّ الحادث يستحيل عليه أنْ يكون قد أحدث نفسه، ولذلك يجادل الله سبحانه وتعالى المنكرين لوجوده تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُوْنَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوْقِنُوْنَ (36) الطور، فقد بيّنت الآية الكريمة أنَّ المخلوق المربوب لا يمكنه خلق نفسه، كما يستحيل أنْ يكون خُلِقَ من دون خالق، ولذلك فإنَّه لم يستطع أحدٌ أنْ يدَّعي أنَّه الخالق لنفسه أو لغيره؛ لأنَّه قبل أنْ يُخلق كان عدمًا، والعدم لا يهب الوجود.
وكما أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن هذه المخلوقات لها خالق واحد غيرها، وهذا الخالق هو الله سبحانه وتعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوْكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوْبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيْدُوْنَ أَنْ تَصُدُّوْنَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُوْنَا بِسُلْطَانٍ مُبِيْنٍ (10) إبراهيم.
ولذلك تحدَّى الله سبحانه وتعالى المشركين، بأنَّ الذين يعبدونهم لا يستطيعون أنْ يخلقوا ذبابًا، وهو من أضعف المخلوقات وأحقرها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوْهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوْبُ (73) الحج، ولا يزال هذا التحدي معجزًا إلى يوم الدِّين.
إذًا، إنَّ هذه المخلوقات لها خالق واحد غيرها، وهذا الخالق هو الله سبحانه وتعالى، وأن هذا الكون وما فيه من مخلوقات إلى زوال. وقد ثبت علميًّا من قوانين الديناميكا الحرارية أن هناك انتقالًا حراريًّا مستمرًا من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، وأنه لا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة، ومعنى ذلك: أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة الأجسام وينضب فيها معين الطاقة، ويومئذٍ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو فيزيقية، ولن يكون هناك أثر للحياة نفسها في هذا الكون.
ولما كانت الحياة لا تزال قائمة، ولا تزال العمليات الكيماوية والفيزيقية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد، وتوقف كل نشاط في الوجود، وهكذا توصلت العلوم إلى أن لهذا الكون بداية، وأنه ليس أزليًّا، وهي بهذا تثبت وجود الله؛ لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون بدأ نفسه بنفسه، ولا بدّ له من مبدئ خالق، هو ربنا الخلّاق العظيم سبحانه وتعالى.
وقد تقرَّر أنَّ لهذا الكون خالقًا ومالكًا ومدبِّرًا يتّصف بالوحدانية، بدليل انتظام الكون وإحكام أمره، وبذلك فإنَّه وحده هو المستحقُّ للعبادة دون من سواه؛ إذ إنَّ من اعتقد أنَّ له ربًّا خلقه ورزقه، وبيده ضرُّه ونفعه، وأيقن أنَّ كلَّ ما سواه فهو تحت تصرّفه وقهره، لا يُقْبَلُ منه عقلًا ولا فطرةً أنْ يعبد ويُأَلِّهَ أحدًا سوى هذا الخالق، ولذلك قرَّر الله سبحانه وتعالى مشركي قريش بألوهيته عن طريق إقرارهم بربوبيته، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُوْلُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِيْ بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُوْنَ (38) الزمر.
قال المقريزي -رحمه الله-: "ولذلك جاءت الاستعاذة في سورة الناس بالأسماء الحسنى الثلاثة: الرّب والملك والإله، فإنَّه لما قال: (قل أعوذ برب الناس) كان فيه إثبات أنَّه خالقهم وفاطرهم، فبقي أنْ يقال: لمَّا خلقهم كلَّفهم وأمرهم ونهاهم قيل: نعم، فجاء: (ملك الناس)، فأثبت الخلق والأمر، فلما قيل ذلك، قيل: فإذا كان ربًّا مُوْجِدًا وملكًا مُكلِّفًا، فهل يُحَبُّ ويُرْغَب ُإليه، ويكون التوجّه إليه غاية الخلق والأمر؟ قيل: (إله الناس)، أي: مألوههم ومحبوبهم الذي لا يتوجه العبد المخلوق المكلَّف العابد إلَّا له، فجاءت الإلهية خاتمة وغاية، وما قبلها كالتوطئة لها".
رابعًا: الانفراد بالإنعام والرزق
إنَّ الله سبحانه وتعالى ينبِّه البشرية ويرشدهم إلى نعمه الجمَّة التي تفضَّل بها عليهم؛ حيث جعل السماوات والأرض معملًا عظيمًا يوفِّر الإنتاج الكامل للإنسان، فقال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِيْ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيْرٍ (20) لقمان، فعلى الرَّغم من إسباغه عليهم النعم، وتسخير الكائنات في الأرض والسماء لهم، فهناك من يجادل في ربوبية الله وألوهيته بغير علمٍ ولا هدى.
إنَّ الذي ينعم هذه النعم وحده هو الذي يستحقُّ العبادة وحده، فمن أنعم ورزق وحده هو الذي يجب أنْ تصرف العبادة له وحده. ويدعو الله سبحانه وتعالى إلى استحضار المنفعة الظاهرة في طلوع الشمس وغروبها، وأنَّها من رحمته عزّ وجلّ بهم، فلولا طلوعها في وقت، وغروبها في وقت آخر، لما تمكَّن الخلق من نيل الهدوء والراحة، فهي بمنزلة السِّراج الذي ينير لأهل البيت بمقدار حاجتهم، ثمَّ يرفع ذلك عنهم؛ ليستقروا ويستريحوا، ذلك أنَّ الأعضاء والجوارح تكلُّ من كثرة الحركة بالنهار، فإذا جاء الليل وسكنت الحركات حصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معًا، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوْا فِيْهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُوْنَ (67) يونس، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيْكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُوْنَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيْكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُوْنَ فِيْهِ أَفَلَا تُبْصِرُوْنَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيْهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيْهِمْ فَيَقُوْلُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِيْنَ كُنْتُمْ تَزْعُمُوْنَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيْدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُوْنَ (75) القصص.
وبحكمته سبحانه وتعالى جعل شعاع الشمس نافعًا غير ضارٍّ، فكلُّ جهةٍ من جهات الأرض تأخذ بمقدار حاجتها من هذا الشعاع بسبب الحركة المتوازنة للكواكب. ولو كانت الشمس ثابتة في موضع واحد لاشتدت السخونة في ذلك الموضع، واشتد البرد في سائر المواضع. وإنَّ مما لا يشكُّ فيه أنَّ الذي ينعم بهذه النعم وحده، ويقدر على تسخير هذه المخلوقات لبني البشر، هو وحده المستحق للعبادة، دون من سواه مما لا ينعم ولا يقدر، أليس كذلك؟
ولعلَّ من أروع الآيات التي ربطت بين إنعام الله سبحانه وتعالى واستحقاقه الألوهية، قوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِيْنَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُوْنَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُوْنَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُوْنَ (61) أَمَّنْ يُجِيْبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوْءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيْلًا مَا تَذَكَّرُوْنَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيْكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَي رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُوْنَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ (64) النمل.
إنَّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات المباركات يوقف المشركين الذين يعبدون غيره، أو يعبدون معه غيره على مشاهداتٍ متعددة في صفحة هذا الكون، ويا لها من مشاهداتٍ مؤثّرة في كلِّ من يتأملها. فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماءً، فجعل الله سبحانه وتعالى المطر ينزل من السماء، ولو جعله يخرج من الأرض وهو قادرٌ على ذلك لما استقامت حياة البشر. ولعلَّ الأزمات التي قد تترتب على غرق بعض الأمتار من الأرض بسبب فساد الصرف، يجعلك تدرك نعمة نزول المطر من السماء، وعدم خروجه من الأرض.
ثمَّ كيف تستقيم حياة من يسكنون الجبال، لو خرج المطر من الأرض، وكيف يشربون؟! وكيف يسقون زرعهم ومراعيهم؟! وقد كانوا في الماضي يعتمدون في ذلك كلِّه على مياه المطر، ولذلك ناسب أنْ ينزل المطر من السماء؛ لتعمَّ فائدته من يقيم في الجبال، ومن يستقر على الأرض.
هذا المطر الذي ينزل من السماء تنبت به حدائق جميلة، إذا تأمّلت زهرةً واحدة من زهورها بما فيها من تموّج ألوانها، وتداخل خطوطها وتنظيم ورقاتها وتنسيق تركيبها، تجدها معجزة، يعجز أعظم رسامي العالم عن رسم شبيهٍ لها، فضلًا عن أنْ يخلق مثلها، وهذه زهرة من الزهور التي لا تعدُّ أنواعها ولا تحصى. وانظر كيف عبَّر سبحانه وتعالى بـ "الحدائق البهيجة"، ولم يعبر بـ "الحقول" أو "الزروع"، مع أنَّ حاجتنا إلى ما يخرج من تلك الحقول من الطعام الذي لا تقوم الحياة إلاَّ به أولى من الحدائق الجميلة، وذلك ليقول لنا: لقد تكفلت لكم بالكماليات والجماليات، فمن باب أولى أن أوفر لكم الضروريات من الطعام والشراب.
فيا أيها العبد لا تقلق على رزقك فإنه سيأتيك، وإنّ الذي خلق لك حديقةً جميلةً بديعةً تستمتع بالنظر إلى عجائبها قادرٌ من باب أولى على أنْ يرزقك بما تقيم به حياتك من الطعام والشراب واللباس والمسكن، وغير ذلك من ضروريات الحياة، فكأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول لك بقوله: (حدائق ذات بهجةٍ) بدلًا من التعبير بـ "الحقول" أو "الزروع": أيها الإنسان، أيها العالم، أيها المتعلم أيها المسلم، إنَّ الأصل في الحياة أنها لم تُجعل للسعي وراء الأرزاق، وإنما جُعلت لتوحيدي والتفكر في نعمي وآلائي وبديع صنعي، كما قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ (56) الذاريات.
فالتوحيد هو أصل الحياة ومحورها، وغير ذلك تابعٌ له في هذه الحياة الدنيا، فلا يكن كلُّ همِّك تحصيل الرزق، فهو كائنٌ بأدنى الأسباب وأقلِّها، إنما عليك أنْ تنشغل بالتوحيد علمًا وعملًا ودعوةً، في كلِّ وقتٍ وحين، وهذه الأشياء التي لا يقدر على إبداعها إلَّا الله، تجعلك توقن أنه لا إله إلا الله (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّـهِ). ويا للعجب؛ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُوْنَ) فيسوون به غيره كاللات والعزَّى وهبل وبوذا ودُلِّي وغيره من خلقه، فيستغيثون بهم، ويطلبون العون والمدد منهم، فيقولون: "مدد يا فلان" بدلًا من أنْ يقولوا: "مدد يا رب"، ويستعينون بإنسان ميْت فيطلبون منه –وهو مَيْتٌ!– الرزق، مع أنَّ الذي يرزق هو الله وحده الذي يُنْبِتُ الحدائق البهيجة، ومن باب أولى يُنْبِتُ الزروع والثمار كما تبيَّن.. وهكذا.
فهذا هو الأسلوب القرآني في تقرير حقيقة الألوهيَّة يربط بين آلائه ونعمه وبديع صنعه مما له أثرٌ في تزكية النفس ورقّة القلب، وبين ما يترتب على ذلك من لزوم توحيده بإفراده في العبادة، ثمَّ يقول الله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا..)، فالله هو الذي خلق السموات والأرض، وعندما تحدث عن السماء وما ينزل منها من ماء، تحدث بعدها عن الأرض وبعض خصوصياتها، فقال (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا..)، أي: جعلها مستقرًّا مريحًا لك، لا هي صُلْبة لا تستطيع حفرها وزراعتها، ولا هي لَيِّنة (رملية أو طينيَّة) لا تستطيع السير عليها، إنما هي وسط؛ كي ترتاح فيها وتستقر عليها، وجعلها أيضًا ثابتةً قارَّةً غيرَ مضطربة، مع أنها سابحة في الهواء متحركة في كلِّ لحظة، وهي مع ذلك قارَّة فيما يبدو لسكانها، ولولا قرارها لكان الناس عليها متزلزلين مضطربين ولكانت حاجاتهم تقضى بمشقة وعنت، فهذا تدبير عجيب.
(وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا..)، أي جعل الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض أنهارًا لنشرب منها ونزرع، فلا نعاني انتظار الماء بتساقط المطر؛ إذ لا يحتمل انتظار ما به قوام الحياة؛ (وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ)، أي: جعل سبحانه وتعالى جبالًا، تثبُت بها الأرض وتستقر، فلولا هذه الجبال الثقيلة الراسية التي تحملها الأرض على ظهرها لتزلزلت ولأصبحت حركتها سريعة، فلا نستطيع الحياة عليها.
(وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) فانظر إلى بحر فيه ماءٌ مالحٌ، وآخر فيه ماءٌ عذبٌ، ولا يختلط هذا بذاك، فالمالح تأكل منه لحمًا طريًّا (الأسماك)، والعذب تأكل منه وتشرب منه، فاجتمع به قوام الحياة الطعام والشراب، ولكن ليس كلُّ الناس قريبين من البحار، فإذا بماءٍ منه يتبخر، فيصير سحابًا في السماء، ثمَّ يسقط عليهم مطرًا، فيزرعون منه طعامهم، ويشربون منه ويرتوون.
ثمَّ تجد أنَّ كلا الماءين في حركةٍ مستمرةٍ عجيبة، فالماء العذب يتسرب إلى باطن الأرض ليكوِّن الآبار والعيون؛ ليعيش عليها أهل الصحراء، وكذلك الماء المالح يتسرب في باطن الأرض؛ ليكوِّن من تفاعلاته المعادن كالحديد والمنجنيز والجرانيت.. والأحجار الكريمة كالياقوت والمرجان والماس. وكلُّ هذه الإبداعات التي تدهش العقل والفكر، ما هي إلاَّ جزء من ألف جزء مما لا نعرفه، لا يقدر على ابتداعها إلاَّ الله، تجعلك تقول: "لا إله إلا الله"، هذا الإله العظيم المبدع هو وحده المستحقُّ للعبادة، (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ).
بعد أن تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن بعض تصرّفاته في المخلوقات من سماءٍ وأرضٍ وماءٍ وزرع وجبال.. وغير ذلك، تحدّث عن تصرّفاته في أحوال الناس، فذكّرهم بأنه هو الذي يجيب المضطر ويدفع السوء (أَمَّنْ يُجِيْبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ..)، فالمضطر في لحظات الكرب والضيق، لا يجد له ملجأً إلا الله، فحين تكثر عليه المحن وتشتد، ويسوء حاله ويحتد، وينظر حواليه فيجد نفسه مجرَّدًا من وسائل العون وأسباب الخلاص، فلا قوته تنفعه، ولا قوة في الأرض تنجده، وكلُّ ما كان يعدُّه لساعة الشدّة قد زاغ عنه أو تخلَّى، وكل من كان يرجوه للكـربة قد تنكَّـر له أو تولَّى.
في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة، فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى "الله"، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، حتى إن كان هذا المضطر قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء، فيدعوه: يارب.. يارب.. يارب.. ليكشف عنه الضر والسوء، فيجيبه السميع العليم القريب المجيب، فمن جـوده يعطيه، ومن الكرب ينجيه.
فالمضطر لا بدَّ من أنْ يُجيبه الله، فمَنْ قال: دعوتُ فلم يُستجب لي، فاعلم أنه غير مضطر، فليست كل ضائقة تمرُّ بالعبد تُعَدُّ من قبيل الاضطرار، كالذي يدعو الله أن يسكن في مسكن أفضل مما هو فيه، أو براتب ودَخْل أوفر مما يأخذه.. كلها مسائل لا اضطـرارَ فيها، وربما علم الله أنها الأفضل لك، ولو زادك على هذا القدر لطغيتَ وتكبّرتَ.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجيب المضطر، وهو الذي يكشف السوء، ولو كان هناك إله آخر يجيب المضطر ويكشف السوء؛ لتوجَّه الناسُ إليه بالدعاء، لكن حينما يُصاب المرء لا يقول إلّا يا ربّ، ولا يجد غير الله يلجأ إليه؛ لأنه لن يغشَّ نفسه في حال الكرب والمصيبة التي ألمّت به.
وقد مثَّل بعض أهل العلم لذلك -ولله المثل الأعلى- بحلّاق الصحة في الماضي، وكان يقوم بعمل الطبيب الآن، فلما أنشئت كلية الطب، وتخرَّج فيها أحد أبناء القرية اتجهتْ الأنظار إليه، فكان الحلّاق يذمُّ في الطب والأطباء، وأنهم لا خبرةَ لديهم؛ لتبقى له مكانته بين أهل القرية، لكن لما مرض ابن الحلاق؛ ماذا فعل؟ -إنَّه إنْ غشَّ الناس فلن يغشَّ نفسه- أخذ الولد في ظلام الليل، ولفَّه في لِحَافٍ، وذهب به إلى الطبيب الجديد، لذلك يقول كلُّ مضطر وكلُّ مَنْ أصابه سوء: يا رب.. يا رب.. حتى غير المؤمن لا بُدّ منَ أن يقولها، ولا بُدَّ من أنْ يتجه بعينه وقلبه إلى السماء إلى الإله الحق، فوقت المصيبة جَدٌّ لا مساومة فيه.
ثمَّ يقول تعالى: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) فمن جعل الناس خلفاء في الأرض يخلف بعضهم بعضًا؟ أليس هو الله الذي استخلف جنسـهم في الأرض أولًا، ثم جعلهم قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل، يخلف بعضهم بعضًا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء؟ أليس هو الله الذي فطرهم وَفْقَ نواميس الكون، وسننه التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها وإعمارها، وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى.
خامسًا: عجز المعبودات الباطلة
إنَّ مما يدلُّ على ألوهية الله سبحانه وتعالى عجز وضعف جميع الآلهة المزعومة من دونه، لذلك تحدَّى القرآن الكريم الناس عامة والمشركين به خاصة منبّهًا على حقارة وضعف ما يعبدون من دون الله عزّ وجلّ، ومبيِّنًا سخافة عقول من يعبدون غيره، بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوْا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوْهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوْبُ (73) مَا قَدَرُوْا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيْزٌ (74) الحج، فإذا كان الذباب الذي هو في غاية الضغف يستحيل علينا خلقه، فإنَّ هناك مسألة أخرى أهون من الخلق، وهي أنَّه لو استولى هذا الذباب على شيءٍ يملكه أقوى الناس فينا، فلن يستطيع –ومن اتخذهم الناس آلهة من دون الله- إعادته منه.
وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِيْنَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُوْنَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِيْ السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيْهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيْرٍ (22) سبأ، وقال تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُوْنِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيْرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّوْرُ أَمْ جَعَلُوْا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) الرعد، ففي هاتين الآيتين قطعٌ لأصول الشرك وهدمٌ له من أساسه؛ لأنَّ المشرك يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا في من فيه خصلة من هذه الخصال الثلاثة: إمَّا مالك لما يريد عابده منه، أو شريك للمالك، أو معين وظهير في تصريف شؤون المالك، وهذه المعبودات الباطلة ليست واحدًا من هؤلاء، ولذلك فهي عاجزة وضعيفة لا تقدر على نفعها نفسها، ولا تملك أنْ تعطي من يسألها شيئًا من ذلك، فيكون من الجهل البيّن أنْ تتخذ هذه المعبودات آلهة مع ما تتصف به من العجز والضعف.
ومما يؤيّد ذلك ما وقع في قصة إبراهيم -عليه السلام- مع النمرود –مدَّعي الربوبية والإلهية-؛ إذ حاجَّه إبراهيم -عليه السلام- بضعفه، أي: النمرود، عن أنْ يأتيَ بالشمس من مغربها، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْ حَاجَّ إِبْرَاهِيْمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيْمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيْتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيْتُ قَالَ إِبْرَاهِيْمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِيْنَ (258) البقرة، فتبيّن عجزه وضعفه وجهله، وأنَّه لا يستحقُّ أنْ يكون إلهًا، كما لا يستحق أنْ يتخذه الناس معبودًا لذلك.
وينبّه الله سبحانه وتعالى المشركين على أنَّه هو الذي يملك كشف الضرِّ عنهم، لا غيره، قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِيْنَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُوْنِهِ فَلَا يَمْلِكُوْنَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيْلًا (56) الإسراء، ويذكرهم أنَّهم يلجؤون إليه عند المصائب الشديدة، ولا يلجؤون إلى غيره ممن يعبدوهم في غير وقت الشدَّة، فقال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُوْنَ (53) النحل.
وهكذا، فإن الفطرة الإنسانية السليمة حين تنطق، فإنها تلجأ إلى الله بالدعاء والطلب والاستمداد، وينكشف هذا للناس جليًّا في لحظات الشدائد الشديدة، والأزمات المستحكمة، والمخاطِر المُحدِقة، واللحظات العصيبة، والحالات المُطبِقة، حينها يعرف الإنسان بفطرته أنّ مخاطبة الله تعالى والطلب منه هو السبيل الوحيد لبلوغ النجاة والفوز بالمراد.
------------------------------------------------------------------------------------------------------
المصادر:
أوّلًا: القرآن الكريم.
ثانيًا: المصادر الأخرى:
- الأشقر، عمر سليمان، "العقيدة الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة"، طبعة دار الفلاح، 1436ه.
- العثيمين، محمد بن صالح، "شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام بن تيمية"، دار ابن حزم، 1421 هـ.
- الجزائري، أبو بكر، عقيدة المؤمن، طبعة دار الدعوة الإسلامية (القاهرة)، سنة 1999م.
- الشافعي، إسلام عبد العزيز، "التمهيد في أصول ومقدمات علم التوحيد"، طبعة مكتبة دار العلم، 2007م.