ما بعث الله من رسول إلا وأيَّده بالمُعجزات الحسيّة من جنس ما برع فيه أهل زمانه، فيكون التحدِّي أكثر قوة وأشدّ تأثيرًا. وتكون هذه المُعجزات دليلًا على صدق رسالته، وتنتهي في زمانها ومكانها، وهي بذلك حُجَّة على من شهدها ورآها. فكانت العصا أبرز مُعجزات موسى -عليه السلام-، وكتابه التوراة، وإحياء الموتى بإذن الله أبرز مُعجزات عيسى -عليه السلام-، وكتابه الإنجيل. انتقل موسى -عليه السلام-، إلى جوار ربه وطُمست من بعده معالم التوراة، ورفع الله إليه عيسى -عليه السلام- وحُرِّف من بعده الإنجيل، حتى أصبح لدينا أكثر من 6 آلاف إنجيل مختلف. ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحد، فمع مرور الوقت تعجز نصوص التوراة والإنجيل المحرَّفة أصلًا عن مواكبة التطورات والأحداث، فيعمد إليها اليهود والنصارى من حين إلى آخر بمزيد من التنقيح والتحريف.
ومن بين الرسل كافة الذين بعثهم الله تعالى إلى البشرية، فقد كان حظ خاتمهم مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- النصيب الأوفر من هذه المُعجزات، حيث الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين يديه، ومخاطبة الجماد والحيوان له، وحنين الجذع إليه، وانقياد الشجر له، وتسبيح الحصى في يديه، وشهادة الذئب برسالته، وشفاء الضرير، ونزول المطر بدعائه وصدق إخباره بالغيب، وتفاعل الطبيعة معه وغير ذلك من المُعجزات الحسية التي يصعب حصرها والإحاطة بها.
وإن كانت تلك المُعجزات جميعها قد انقضت في حيِّزها الزماني والمكاني، كما انقضت مُعجزات الرسل السابقين من قبل، وأصبحت بذلك جزءًا من السيرة النبوية العطرة، فإن القرآن العظيم يظل المُعجزة الخالدة لكل زمان ومكان، ولكل جيل وللناس كافة. فهو كتاب واحد لا يتغيّر محتواه، ولكن تظل معانيه متجدّدة لتناسب أهل كل زمان، والكل يجد فيه مبتغاه. وهذا ما يفسِّر تعدُّد أقوال المفسرين واجتهاداتهم في الآية الواحدة. وفي الحديث الشريف:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلّم- قَالَ: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نبيّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الذي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ). رواه البخاري ومسلم.
القرآن اسم لكلام الله تعالى، المنزَّل على خاتم الرسل والأنبياء مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- بلفظه ومعناه، المتعبَّد بتلاوته، المنقول إلينا بالتواتر، المحفوظ في الصدور، المخطوط في المصاحف من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، المجموع بأيِّ وسيلة من وسائل الحفظ المقروءة أو المسموعة أو المحسوسة، الموجَّه إلى الناس كافة في كل زمان ومكان، المُعجز بلفظه ومعناه ونظمه ورسمه ومنهجه وفحواه، المُتحَدّي بكل سورة فيه، المُصَان من بين يديه ومن خلفه من كل باطل، تحريفًا أو تغييرًا أو زيادةً أو نقصانًا.
أسماء القرآن
للقرآن العديد من الأسماء والصفات وصل بها بعض أهل العلم إلى نحو مئة اسم وصفة، ما يدلّ دلالة واضحة على عظمة هذا الكتاب وشرفه، وسمو منزلته، وكماله وعلو قدره، وأشهر أسمائه وصفاته: الكتاب، والذكر، والفرقان، والتنزيل، والهدى، والحق، والبرهان، والنُّور، وقد غلب عليه اسمان: القرآن، والكتاب، وفي ذلك إشارة جليَّة إلى شدّة العناية بحفظه في الصدور والسطور، وأن يكون كل مصدر رقيبًا على الآخر، إن نسي الحُفَّاظ ذكَّرهم الكتّاب، وإن أخطأ الكتّاب صوَّبه الحُفَّاظ، وذلك تحقيقًا لقول الله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ (9) الحجر
وفي العصور المتأخِّرة تمّت إضافة مصدر ثالث ومهم جدًّا للحفظ، وهو التسجيل الصوتي للقرآن، وهناك مصدر رابع يستخدمه مكفوفو البصر وهو المصحف المحسوس بأصابع اليد (برايل).
جمع القرآن
لقد أنزل الله عزّ وجلّ القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، في شهر رمضان في ليلة القدر منه، فهو كتاب مبارك أنزل في ليلة مباركة، وفي شهر مبارك، ولذلك تلاحظ أن أوّل مرّة يرد فيها اسم "القرآن" في القرآن الكريم جاء مقترنًا بشهر رمضان في الآية:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيْضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيْدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ (185) البقرة
وخلافًا لهذا الموضع لم يرد لفظ "رمضان" في القرآن مطلقًا، ثم نزل القرآن بعد ذلك منجّمًا ومتفرّقًا على مدار 23 عامًا، بحسب الوقائع والأحداث، وفي ذلك حكم بليغة ومنافع كثيرة. وقد حفظ النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- القرآن كلّه تمامًا كما أنزله الله عزّ وجلّ، وذلك تحقيقًا لقوله تعالى:
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) الأعلى
وكان جبريل -عليه السلام- يعارضه القرآن، أي يراجعه عليه، في كل عام مرّة، وذلك في شهر رمضان، وعارضه إياه في العام الذي توفي فيه -صلى الله عليه وسلّم- مرّتين، سورة سورة وآية آية وكلمة كلمة، وهذا ما يسمّى بالعرضة الأخيرة، وبذلك كان ما في صدر النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- من القرآن صورة طبق الأصل عمّا هو عليه في اللوح المحفوظ. وقبل وفاته -صلى الله عليه وسلّم- عارض ما أنزل عليه ربه بسوره وآياته وكلماته وحروفه على ما حفظه المسلمون، فكان ما في صدور القُراء صورة طبق الأصل مما كان في صدر النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-.
وقد أجمعت الأمّة على أن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- كان يأمر بكتابة كل ما ينزل عليه من القرآن، أوّلًا بأوّل، وبذلك تمّت كتابته وتدوينه كاملًا، آيةً آيةً وكلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا، في عهده -صلى الله عليه وسلّم-، ولكن كان متفرِّقًا دون أن يُجمع في مصحف واحد بين دفتين كما هو اليوم. ولعلك تذكر في إسلام عمر -رضي الله عنه- حينما دخل على أخته، فإذا صحيفة في ناحية البيت مكتوب فيها (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ – سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيْزُ الْحَكِيْمُ)، واطَّلع على صحيفة أخرى فوجد فيها (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ – طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، فأسلم عندما وجد نفسه أمام كلام مُعجز ليس من قول البشر. فهذه وغيرها مما تزخر به كتب السيرة تدلك على أن الكُتّاب كانوا يكتبون القرآن أوّلًا بأوّل، بإملاء الرسول -صلى الله عليه وسلّم-، وأن هذا المكتوب كان يتناقله المسلمون ويتداولونه فيما بينهم.
حفظ القرآن
لقد حفظ عدد كبير من الصحابة -رضي الله عنهم- القرآن كاملًا، وحسبك ما يقال في كثرتهم أنه في غزوة بئر معونة قُتل منهم سبعون، ثم حسبك من كثرتهم أنه كانت منهم سيدة هي أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث، وكانت قد جمعت القرآن كاملًا في عهد النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-(1).
فلما توفي النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- كان القرآن مكتوبًا كلّه ولكنه كان متفرِّقًا، على الرقاع وعظام الأكتاف وصفائح الحجارة وجريد النخل وغيرها. وجُمع القرآن في مصحف واحد، بعد أن كان متفرقًا بأمر من الخليفة الأوّل أبو بكر الصديق وفقًا لنصيحة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقد كُلِّف بجمعه أحد حفظة القرآن وكُتَّاب الوحي، زيد بن ثابت -رضي الله عنه-. وبعد أن أتمَّ زيد -رضي الله عنه- جمع القرآن كاملًا في مصحف واحد، وباتباع ضوابط صارمة وبمشهد من الأمّة وحضورها وإجماعها، وعلى أدقَّ وجوه البحث والتحرِّي، سلمه لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فحفظه عنده حتى وفاته، ثم انتقل من بعده إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وبعد وفاته ظلَّ المصحف الشريف محفوظًا لدى أم المؤمنين حفصة بنت عمر -رضي الله عنها-، لأن عمر -رضي الله عنه- جعل أمر الخلافة من بعده شورى، إلى أن رأى الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بناءً على نصيحة حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، جمع القرآن في نسخ موحَّدة، فسأل حفصة -رضي الله عنها- بأن تسمح له باستخدام المصحف الذي بحوزتها، والمكتوب بلسان قريش لتكون اللَّهجة القياسية، ومن ثمَّ أمر بنسخ ست نسخ من المصحف -على أصح الروايات- لتوحيد النص وجمع المسلمين على كتاب واحد خشية الاختلاف.
وقد سلك في ذلك منهجًا فريدًا، وطريقًا سليمًا، أجمعت الأمّة على سلامته، حيث اختار لهذه المهمَّة أربعة من أعلم الصحابة بكتاب الله وأفصحهم لسانًا، منهم زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، وأمر بإحراق كل ما يُخالف ذلك المصحف، كما أمر بتوزيع تلك النسخ على مكة، والكوفة، والبصرة، والشام، وترك واحدًا لأهل المدينة، واحتفظ لنفسه بواحدٍ منها، ونشط المسلمون في نسخ مصاحفهم من هذه النسخ، وكان زيد بن الحارث في المدينة يتفرَّغ في رمضان من كل عام لعرض المصاحف، فيعرضون مصاحفهم عليه، وبين يديه مصحف أهل المدينة.
المصحف الإمام
لقد سُمِّيت تلك النسخ بالمصحف الإمام، أو المصحف العُثماني، وهو المصحف المنتشر الآن في جميع أرجاء العالم، حيث يحتوي المصحف الذي بين أيدينا اليوم على النص نفسه المنسوخ من النسخة الأصلية، ويتوارثه الحُفَّاظ عبر الأجيال من خلال أسانيد موثوق بها ومتَّصلة بالنبيّ -صلى الله عليه وسلّم-، وبما يوافق العرضة الأخيرة.
ومنذ أن دخلت تلك المصاحف الأمصار أقبل المسلمون ينسخونها، وقد نسخوا منها أعدادًا كبيرة، وحسبك من كثرتها أنك عندما تقرأ عن وقعة صفِّين، وما اقترحه عمرو بن العاص من رفع المصاحف، حقنًا لدماء المسلمين، رُفِعَ من عسكر معاوية وحده نحو 500 مصحف (2)، ولا شكّ في أن هذا العدد لا يمثل سوى نسبة ضئيلة جدًّا مما يملكه المسلمون من مصاحف حينذاك، برغم أنه لم يكن قد مضى على كتابة عثمان -رضي الله عنه- للمصحف الإمام وإرساله إلى الأمصار ما يزيد على سبع سنين.
واهتم الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون من بعدهم، اهتمامًا كبيرًا بحفظ القرآن الكريم ونسخه، وما زال المسلمون يعتنون به، تلاوةً وحفظًا، وشرحًا وتفسيرًا، وتعلُّمًا وتعليمًا إلى أن يأذن الله برفعه؛ حيث انتشرت مدارس تعليم القرآن الكريم وتحفيظه في جميع أرجاء العالم، وأُنشئت معاهد للقراءات، وكليات لتحفيظ القرآن وتدريسه في جميع الدول الإسلامية من دون استثناء.
شهادة مستشرق
يقول المستشرق موير: "إنَّ المصحف الذي جمعه عثمان -رضي الله عنه- قد تواتر انتقاله من يد ليد، حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يُذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها، والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يُعدّ أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا".
الأحرف السبعة
عندما نزل القرآن كانت لهجات العرب مختلفة ومتباينة، ولذلك أمر الله تعالى رسوله مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- أن يقرأ القرآن على سبعة أحرف.. سبع لهجات، وذلك مراعاةً لاختلاف لهجات الأمّة، وتيسيرًا وتخفيفًا عليها، إضافة إلى الحرص على تأليف القلوب واستمالتها، وقد جاء في الصحيحين: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلّم- قَالَ: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ".
وليس المقصود بالأحرف السبعة، القراءات السبع المتواترة، كما يظن بعضهم، وإنما المقصود هو اللَّهجات، إذ إن هذه القراءات عُرفت واشتهرت في القرن الرابع الهجري، وهي طُرق القراءة وفقًا لأحكام التجويد حسب كل مدرسة تجويدية. أما المصحف الذي جمعه عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقد كُتب مجرّدًا وخاليًا من النقط والشكل، وعلى حرف واحد من الأحرف السبعة.. هو حرف قريش، إذ إن الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن واقعة كلها في لسان قريش، حيث كانت مجمع لهجات مختارة ومنتقاة من بين لهجات القبائل العربية، التي اختلط بها القرشيون في التجارة والحج والعمرة قبل نزول الوحي.
لذلك عندما أتمَّ عثمان -رضي الله عنه- جمع المصحف الإمام، أرسل نسخًا منه إلى الأمصار، وأرسل مع كل مصحف مَنْ توافق قراءتُه لسانَ أهل ذلك المصر، فبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وعامر بن عبد القيس مع البصري، وأبا عبد الرحمن السُّلمي مع الكوفي، بينما أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبذلك فإن المصاحف العُثمانية جميعها اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة، وأن هذه الأحرف باقية في التنزيل، وما هي إلا تحديد لوجهة الاختلاف في أداء الكلمة القرآنية، وفق ما نزل به الوحي وأذن به النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-.
القراءات المتواترة
لم يَلْقَ كتاب في التاريخ منذ أن خلق الله البشرية حتى الآن ما لقيه القرآن العظيم من عناية واهتمام، ولا غرو في ذلك، فهو خاتم الكتب السماوية المقدَّسة، ورسالة الله الخالدة إلى الناس أجمعين. وفي تعدّد القراءات القرآنية الدليل القاطع على كمال هذا الكتاب، حيث لم يتطرّق إليه أي تناقض أو اختلاف، بل كلّه يصدق بعضه بعضًا، ويؤيّد أوله آخره، وآخره أوله.
وفي تعدّد القراءات نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وغاية الفصاحة، وجمال الإيجاز، إذ إن كل قراءة بمنزلة الآية، وتنوّع اللفظ بكلمة واحدة تقوم مقام آيات عدّة، فلو كان كل لفظٍ آية لكان في ذلك تطويل وخروج عن سنن البلاغة العربية ونهجها (3). وكل قراءة من القراءات تحمل وجهًا من وجوه الإعجاز ليس في غيرها، فالقرآن العظيم مُعجز بجميع القراءات، وبجميع الوجوه، ومن هنا تعدّدت مُعجزاته وتنوّعت.
نسب شهرة لا ابتداء
إن نسبة القراءات الصحيحة المتواترة إلى قرّاء بعينهم إنما هي نسبة اختيار وشهرة، إذ إنهم حلقة في سلسلة من الرجال الثقات الذين رووا هذه القراءات ونقلوها عن أسلافهم، لا ابتداء ولا رأي ولا اجتهاد فيها لأحد، بل اتباع النّقل والأثر، وإن جميع هذه القراءات مبنيَّة على التلقي والرواية، من خلال أسانيد صحيحة متواترة ومنقولة عن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- ونزل بها الوحي من عند الله عزّ وجلّ.
تنوُّع القراءات
تنحصر أهم أوجه تنوّع القراءات في شكل الكلمة أو بنيتها، والمدّ في حروفها، والإمالة أو عدمها، ومواضع التنقيط، والزيادة أو النقصان في حروف بعض الكلمات، وتبديل حرف مكان آخر. أما بالنسبة إلى البسملة فلم يختلف أئمة القراءات في إثباتها وقراءتها في أوائل جميع السور، إلا سورة التوبة، ولكن تنوَّعت الروايات بين عدم اعتبارها آية مطلقًا أو اعتبارها آية في كل سورة، أو أنها آية من الفاتحة فقط، مع أن جميع الروايات اتفقت على أن الفاتحة سبع آيات، ولكن جاء التنوع في تحديد هذه السبع.
العُثماني والإملائي
على الرغم من أن الرسم العُثماني للمصحف الشريف رسم بدائي يناسب حال الأمّة الأميَّة في ذلك الزمان، فإنه مُعجز في ذاته، إذ إنه يجمع بين قراءات عدّة وهو رسم واحد، وهذا لا يمكن أن يكون لأي لغة غير العربية، إذ إن جميع لغات العالم الأخرى يُكتب كل حرف منها بنصه ورسمه، بل في هذه اللُّغات كثير من الحروف تنطق حرفًا واحدًا وتُكتب حرفين أو ثلاثة، أما في العربية فإنَّ التمييز يكون بمواضع تنقيطها وتشكيلها. ولذلك جاء رسم المصحف العُثماني رسمًا مجردًا ليُقرأ على وجوه متعددة ومتنوعة، لأن الأساس في تعلُّم القرآن هو المشافهة والتلقي من أفواه المشايخ والقُرّاء.. لا من المصاحف.
وقد نزل القرآن ملفوظًا لا مكتوبًا، وتمّت كتابته برسمه الحالي في بادئ الأمر، ثم تطوَّرت بعد ذلك قواعد الرسم واللُّغة، فهل ظلّ القرآن جامدًا وبعيدًا عن تطوُّر هذه القواعد؟ كلَّا، إن القرآن الكريم ليس لجيل دون آخر، وليس لمنطقة جغرافية دون غيرها، وإنما هو لكل زمان ومكان، ولذلك جاء القرآن العظيم منسجمًا مع قواعد الإملاء الحديثة ومتفوّقًا عليها في كل الوجوه، ومع ذلك ظلّ ارتباطه بالرسم العُثماني لم يتغيَّر! فإذا نظرت إلى نظم القرآن من خلال هذا الرسم فهو مُعجز، وإذا نظرت إليه من خلال قواعد الإملاء الحديثة فهو مُعجز أيضًا، والدليل على ذلك هذا الموقع، فهو يعرض عليك آلاف الأدلَّة على ذلك، ويعرض عليك حقائق رقميّة يقينية ثابتة.
انضباط الرسمين
قد يتوهَّم بعضهم وجود اختلافات جوهرية بين الرسم العُثماني والرسم الإملائي الحديث، إلا أن ذلك غير صحيح، فمن عظمة القرآن أنه ينضبط مع الاثنين، ويتفاعل معهما بالقدر نفسه من الدقَّة.. فعلى مستوى السور والآيات هناك تطابق تام، إذ إن سور القرآن 114 سورة، وعدد آياته 6236 آية بحسب الرسم العُثماني وقواعد الإملاء الحديثة أيضًا.
أما التباين بين الرسمين فهو يأتي على مستوى الكلمات والحروف فقط. وعدد كلمات القرآن بحسب قواعد الإملاء الحديثة 77800 كلمة، وعددها بحسب الرسم العُثماني 77432 كلمة، ما يعني أن الاختلاف بين الرسمين ينحصر في 368 كلمة في القرآن كله. ومُعظم هذه الكلمات يأتي من دمج ياء النداء مع الكلمة التي بعدها في كلمة واحدة، بحسب الرسم العُثماني، مثل: يَٰٓأَيُّهَا، يَٰٓـَٔادَمُ، يَٰمُوسَىٰ، بينما تُكتب هذه الكلمات كلمتين: "يا أيها"، و"يا آدم" و"يا موسى"، بحسب قواعد الإملاء الحديثة.
على مستوى الكلمات هناك تطابق تام بين الرسمين في 54 سورة. أي أن عدد الكلمات في هذه السور بحسب الرسم العُثماني هو نفسه عدد الكلمات بحسب قواعد الإملاء الحديثة، وهناك 14 سورة يزيد عدد كلماتها بحسب قواعد الإملاء الحديثة كلمة واحدة، وهناك 12 سورة يزيد عدد كلماتها بحسب قواعد الإملاء الحديثة كلمتين اثنتين.
أما أكبر اختلاف في عدد كلمات السور بين الرسم العُثماني وقواعد الإملاء الحديثة، فهو في سورتي المائدة وهود، حيث يزيد عدد كلماتهما بحسب قواعد الإملاء الحديثة 33 و30 كلمة على التوالي. والسبب في ذلك أن هاتين السورتين هما أكثر سور القرآن التي تكرّرت فيهما ياء النداء، والتي تُدمج مع ما بعدها بحسب رسم المصحف، وقد وردت ياء النداء في هاتين السورتين معًا 62 مرّة.
مُعجز بكل الوجوه!
إن القرآن الكريم مُعجز بكل الوجوه، وهذه حقيقة يحاول موقع طريق القرآن ترسيخها وتثبيتها بالأدلة والمعطيات الإحصائية الواضحة التي لا تقبل الشكّ. وبرغم اعتمادنا في المنظومة الإحصائية القرآنية على عدّ الحروف والكلمات وفق قواعد الإملاء الحديثة، فقد درسنا عدد حروف القرآن وكلماته بالرسم العثماني أيضًا، حيث تأكَّد لنا، من خلال أدلَّة وبراهين ومعطيات ثابتة، وحقائق رقميّة يقينية، لا تقبل المغالطة أو الشك، أن كل حرف وكلمة وآية وردت في القرآن، وفق نظام وحساب دقيقين، وبكل الوجوه!
إن أي رسم لا يغني عن الآخر، وعليه يجب أن يظل الرسم العثماني للمصحف كما هو رسمًا مقدّسًا ملازمًا للقرآن الكريم، لما يحمله من مضامين إعجازية، وفي الوقت نفسه يجب الاهتمام بالنظر إلى القرآن من خلال قواعد الإملاء الحديثة، لأن هذه القواعد جاءت متأخرة وبعد انقطاع الوحي بعشرات السنين، وفيها الدليل الحاسم على أن الذي نظم هذا القرآن ورتَّب حروفه وكلماته وآياته وسوره هو عالم الغيب وحده سبحانه وتعالى.
ومن خلال هذا الموقع سوف يترسَّخ إيماننا بأن حروف القرآن وكلماته وفق قواعد الإملاء الحديثة تأتي وفق نظام إحصائي بديع، يفرض نفسه بقوة على مسارات المنظومة الإحصائية القرآنية، ويتفاعل بكفاءة عالية مع تطور التقنيات الرقميّة والإلكترونية.
أما الجمع بين قواعد الإملاء الحديثة والرسم العثماني -كما ينادي بعضهم- فهو أمر مرفوض، لما سوف يؤدي إليه من طمس للنظم القرآني المعجز الذي أودعه الله في حروف القرآن وكلماته وآياته.
قد يتعجَّب بعضهم ويتساءل: كيف يكون القرآن مُعجزًا بحسب قواعد الإملاء الحديثة، ولم تكن تلك القواعد موجودة أصلًا عندما تنزَّل القرآن؟!
الرّد على مثل هذه التساؤلات في قوله تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوْرًا رَحِيْمًا (6) الفرقان
فالله عزّ وجلّ عندما نزَّل هذا القرآن قبل ما يزيد على 1400 عام على أمّة كانت غالبيتها الساحقة من الأمِّيين، أنزله للناس كافة، ولكل زمان ومكان، ولذلك سبق في علمه سبحانه وتعالى أن قواعد الإملاء سوف تتطوَّر وتتغيَّر وأن الحروف العربية سوف يتم ترتيبها وتنقيطها وتشكيلها فيما بعد على النحو الذي هي عليه اليوم، وبذلك جاءت هذه الوجوه مُعجزة أيضًا، وذلك تصديقًا لقول النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- عن القرآن "لا تنقضي عجائبه".
وكما نعلم فإن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأن هناك قراءات صحيحة متواترة، وهناك تنوُّع في عدد آياتها وكلماتها وحروفها، وإن كان ترتيب السور والآيات والكلمات وتسلسلها متطابقًا في جميع القراءات. وإن من أعجب عجائب القرآن، أن كل وجه من وجوهه المتنوعة يتفرد ببناء إحصائي مُعجز ويتميّز به. وحتى نؤكِّد هذه الحقيقة ونرسِّخها فقد أفردنا هذا الموقع عن وجه مختلف تمامًا عن الرسم العُثماني للمصحف، وسوف تصدر بإذن الله تباعًا كُتب أخرى عن وجوه متنوعة ومتعددة للقرآن العظيم. فكل وجه من الوجوه له بناؤه الرقميّ المُعجز وليس بالضرورة أن يتطابق مع الوجوه الأخرى، وقد تضمَّن هذا الموقع العديد من حالات المقارنة بين أكثر من وجه.
تنوّع وليس اختلافًا
الشيء المحزن أن العديد من أهل العلم المعاصرين منهم والسابقين يستخدمون كثيرًا كلمة "اختلاف" عند حديثهم عن القراءات الصحيحة المتواترة، وعند مقارنتهم بين رواية وأخرى، والصحيح أنه "تنوّع" وليس "اختلافًا" فهذه القراءات متنوِّعة وليست مختلفة، ومتطابقة أكثر مما هي متنوّعة، بل يعزّز بعضها بعضًا، وهذا من عظمة القرآن وكمال نظمه ومعناه.
مراحل رسم الحروف
عندما كُتب القرآن وأُثبت في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- كُتب برسم إملائي بدائي خالٍ من علامات التشكيل والتنقيط، وفيما يلي نموذج لآية واحدة بالطريقة التي كُتبت بها أوّل الأمر، ومراحل تطوُّر طرق كتابتها عبر الزمن:
هكذا دُوِّنت كلمات القرآن في عهد النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-:
وهكذا ضُبطت بالشكل حروف كلماته في عهد الخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:
وهكذا وُضعت النقاط على حروفه في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان:
وهكذا رُسمت حروفه وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة في عصرنا الحاضر:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ |
وهكذا يستوعب القرآن العجيب كل ما هو جديد، بل ويتفوّق عليه. ليس في المجال اللُّغوي فحسب، ولكن في كل شيء، فتجده في مجال العلوم سابقًا بقرون أحدث ما توصل إليه العالم، وتجده في مجالات التربية والتشريع وغيرهما يخاطب كل جيل كأنه الجيل الذي نزل عليه الوحي! ومن هنا تتجلى عظمة القرآن الذي أنزله الله بعلمه، وكفى بالله عليمًا!
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُوْنَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيْدًا (166) النساء
الآن.. علمنا لماذا نزل القرآن ملفوظًا ولم ينزل مكتوبًا؟!
فمنذ أن خلق الله آدم -عليه السلام- وأنزله إلى الأرض حتى قيام الساعة، يبقى القرآن أعظم كتاب أنزله الله على البشر، ومع ذلك فإنَّه لم ينزل مكتوبًا كما نزلت التوراة، وإنما نزل ملفوظًا. وكونه نزل منجّمًا في 23 عامًا ما كان ذلك ليمنع نزوله في صحائف مكتوبة وبحسب الوقائع والأحداث.
وفي ذلك حكم بليغة..
ومنها أن القرآن نزل ملفوظًا حتى يكون مُعجزًا في لفظه ونظمه لكل الأزمنة والأجيال، وحتى يتفوَّق على أفضل ما توصل إليه البشر، في كل عصر. أرأيت في المحطة السابقة كيف دُوِّنت كلماته في عهد النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وكيف ضُبطت بالشكل حروف كلماته في عهد الخليفة علي -رضي الله عنه-، وكيف وُضعت النقاط على حروفه في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، وكيف رُسمت حروفه وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة في عصرنا الحاضر؟! ومن يدري ما يمكن أن يكون عليه الحال في المستقبل! وفي كل مرحلة يتفاعل القرآن ويرتقي ويتألَّق. وهذا التألُّق والارتقاء كان سيختفي تمامًا لو نزل القرآن مكتوبًا.
حكمة أخرى من نزول القرآن العظيم ملفوظًا وليس مكتوبًا..
هي أن الله بحكمته أراد أن يُنزِّل هذا القرآن على نبيّ أمّي، حتى يكون في ذلك حُجَّة على الذين يقولون بافتراء القرآن. ولو نزل هذا القرآن مكتوبًا لاحتاج النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- لمن يقرأ له الصحائف المكتوبة، وكان سيتّخذ قُرّاء للوحي المكتوب، تمامًا، كما احتاج إلى اتخاذ كُتّاب للوحي الملفوظ. وشتان بين الحالتين، ففي الحالة الأولى فإن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- سيكون في مقام المُتلقي من البشر، أما في الوضع الثاني فهو -صلى الله عليه وسلّم- المُعلِّم والمُوجِّه لكُتّاب الوحي.
وهكذا بنزول الوحي ملفوظًا اقتضت حكمة الله عزّ وجلّ ألَّا يكون هناك وسيط من البشر بينه وبين عبده ونبيِّه، وأن يكون النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وحده الوسيط ما بين الوحي والناس، ولذلك وردت كلمة "قُلْ" في القرآن 332 مرّة، ووردت كلمة "قَالُوا" في القرآن 332 مرة، أي مثلها تمامًا! فتأمّل هذا التطابق العجيب مع أن هذه الألفاظ وردت في مواضع مختلفة! وكلمة "قُلْ" لا يقولها الحق سبحانه بينه وبين رسوله، بل المراد: أعلنها يا مُحمَّد على الملأ، وأسمِعْ بها الناس جميعًا.
شرف الأميَّة!
لقد اتّخذ النبي -صلى الله عليه وسلّم- كُتَّابًا للوحي.. ويُخطئ من يظن أن رسم الكلمة القرآنية كان بتوجيهه -صلى الله عليه وسلّم-، لأن ذلك يُعارض صريح القرآن في أكثر من موضع، ومنها قوله تعالى لنبيه:
وَمَا كُنْتَ تَتْلُوْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِيْنِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُوْنَ (48) العنكبوت
وفي هذا البيان الإلهي الصريح أنَّ مُحمَّدا -صلى الله عليه وسلّم- لم يقرأ قبل القرآن أي كتاب، ولو كان يكتب ويقرأ لارتاب الذين في قلوبهم مرض، ولكنه ظل على الفِطْرة التي اختارها الله لأنبيائه، فهو لم يتعلَّم من أحد من البشر، ولم يقرأ كتابًا من الكُتب، وهذا هو معنى الرسول النبيّ الأميّ. وبذلك كانت الأميَّة مدحًا وشرفًا وعزًّا له، ويكفيه شرفًا أن مُعلِّمه هو الوحي من ربه عزّ وجلّ: عَلَّمَهُ شَدِيْدُ الْقُوَى (5) النجم. وهو بذلك سيد العلماء، ومعلم البشرية جمعاء.
الرسم العُثماني
ومما يدلّ على أن رسم المصحف وقع باجتهاد الصحابة -رضي الله عنهم- قول عثمان بن عفان -رضي الله عنه- للرهط القرشيين الثلاثة الذين كانوا ينسخون المصحف الإمام مع زيد بن ثابت (عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام): إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن (وفي رواية: في عربية من عربية القرآن) فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا.
ولو كان رسم الكلمة بتوجيه النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-، كما يتوهَّم بعضهم، ما تجرأ عثمان، ولا أحد غيره من الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعين، أن يقول ذلك. وهذا هو الوجه في نسبة رسم المصحف إلى عثمان -رضي الله عنه- لأنه وقع بأمره وإشرافه، ثم أجمع المسلمون عليه فصاروا لا ينسخون مصحفًا إلا على رسمه. ومعلوم أن الرسم العُثماني لم يكن منقوطًا ولا مشكولًا ولا مرقَّمًا، وعلى توالي العصور، ومع تطوُّر قواعد الكتابة والإملاء جاءت إضافة النقاط وعلامات التشكيل والأرقام إليه بين مؤيِّد ومعارض. وعندما تمَّ ذلك التغيير استوعبه القرآن العجيب ضمن نظمه اللغوي المحكم وبنائه الإحصائي المُعجز، بل وتفوّق عليه.
القرآن بطريقة برايل
لقد تطوَّرت الأمور المتعلقة برسم القرآن، حتى استجدَّت، ووصلت في هذا العصر إلى كتابته بنظام برايل للمكفوفين، حيث أنعم الله على هذه الفئة في هذا العصر بهذا الخط، ويسّر لهم قراءة القرآن بأنفسهم. وقد صدرت بالفعل مصاحف في بعض الدول العربية معتمدة على قواعد الإملاء الحديثة، وانتفع بها كثير من المكفوفين، وذلك من باب التيسير على هذه الفئة، ولم يكن مع من اعترض على كتابة المصحف بالرسم الإملائي الحديث دليل يعتمد عليه، إذ إن المصلحة المترتبة على طباعته أعظم وأكثر نفعًا من المنع، بل إن المنع من طباعته بنظام برايل ستترتب عليه مفاسد كثيرة، ومن المعلوم أن هذا الدين يقوم على جلب المصالح ودفع المفاسد.
المصحف الإلكتروني
وفي خضم الثورة المعلوماتية التي تجتاح العالم اليوم، ظهر المصحف الإلكتروني مكتوبًا وفقًا لقواعد الإملاء الحديثة التي تتفاعل بكفاءة عالية مع محركات البحث، وفي أدقّ التفاصيل وعلى مستوى الحرف، وهناك ملايين المسلمين ينتفعون به. وإن ما يشهده العالم اليوم من توسُّع كبير في التعامل مع القرآن في عصر المعلوماتية، ما هو إلا بدايات لعالم جديد يستند إلى استخدام وسائل الذكاء الصناعي والإمكانيات المتطِّورة للتقنيات الرقميّة والإلكترونية، وذلك يستوجب تعاونًا كبيرًا بين المتخصصين في المعلوماتية وعلماء الأمّة، لإتاحة أفضل السبل للتعامل مع القرآن في هذا العصر، لما فيه خير الأمّة وتقدُّمها، وألَّا نجعل من رسم المصحف قيدًا يحول دون تحقيق المصلحة العليا التي نزل لأجلها القرآن العظيم.
العُثماني هو الأساس
برغم ما يتضمّنه هذا الموقع من ملامح نظام إحصائي بديع ومُعجز لكلمات القرآن وحروفه بحسب قواعد الإملاء الحديثة، فإن ذلك يجب ألَّا يكون مبررًا للدعوة إلى الابتعاد عن الرسم العُثماني للمصحف، بل إن هذا الرسم يجب أن يبقى ما بقي القرآن العظيم، لأن ذلك الرسم وقع باجتهاد كُتّاب الوحي والصحابة -رضي الله عنهم-، وهم الذين كتبوا الكلمة على الصفة التي سمعوها بها من النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-، ولم يخرجوا بكتابتهم عمّا سمعوا، وكان ما رسموا عليه حروف الكلمة بما أوتوا من المعرفة بأصول الكتابة في ذلك الزمان، لا بتعليم النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- لهم ذلك، كما يتوهَّم بعضهم.
كما يجب ألَّا يُفهم من الدعوة إلى التوسع في وسائل كتابة القرآن، أنها دعوة إلى التحرر من الرسم العُثماني للمصحف المطبوع، بل يجب التزام الرسم العُثماني في كتابة المصاحف الأمّات ليكون حجَّة خالدة على عدم تسرُّب أي تغيير أو تحريف أو تبديل في النص القرآني. فالإبقاء على ما كان عليه المصحف المطبوع من الرسم العُثماني أولى وأحوط، خاصة في هذا الزمن الذي افترقت فيه الأمّة، وكثر فيها الاختلاف، وتكالب عليها الأعداء والفتن، ولذلك يبقى الرسم العُثماني أقوى ضمان لصيانة القرآن من التغيير والتبديل.
كما أن الأمّة الإسلاميّة قد أجمعت منذ عصرها الأوّل على هذا الرسم، وهو بذلك يمثل أحد جذورها لما له من أثر تاريخي يرجع إلى عصر النبوَّة والخلافة الراشدة؛ بل إن هذا الرسم، رغم بدائيته، فإن له طبيعة خاصة تختلف عما تعارف عليه الناس في كتاباتهم العادية، وهذه الخصوصية ترجع بلا شك إلى خصوصية هذا الكتاب العجيب المُعجز. فكما أن نظم القرآن مُعجز بكل الوجوه، فرسمه البدائي مُعجز في ذاته، إذ إنه يجمع بين قراءات عدّة وهو رسم واحد، ولهذا كان من الأمور التي لا يجوز تغييرها بحال من الأحوال.
ترقيم القرآن
لقد اهتم المسلمون، منذ القرون الأولى، بمسألة ترقيم القرآن وعدّ آياته وكلماته، ولهم في ذلك العديد من الكتب التي يعود تاريخ بعضها إلى القرن الهجري الأوّل، مثل "كتاب العدد" لعطاء بن يسار، المتوفى عام 103 هـ، بل إن المخطوطات القديمة للقرآن تحمل بين ثناياها أشكالًا هندسية تدل على انتهاء الآية، ومن ثم يُوضع الرقم كتابة وبشكل مقابل على هامش الصفحة، حيث كانت الآيات تُرقَّم في شكل حزم ومجموعات من مضاعفات العشرة.
وقد نزل القرآن ملفوظًا، ولم ينزل مكتوبًا كما نزلت التوراة. وإن كانت آياته لم تُرقَّم في عهد النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- إلا أنه كان يقف على رؤوس الآيات تعليمًا لأصحابه أنها رؤوس آيات، حتى إذا علموا ذلك وصل الآية بما بعدها طلبًا لتمام المعنى، ولذلك عندما جاء ترقيم الآيات فيما بعد إنما جاء متتبّعًا مواضع الفواصل التي كان يقف عندها النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- بوحي من الله عزّ وجلّ. ولذلك عندما تمّ ترقيم القرآن وتشكيله وتنقيطه بعد فترة طويلة من الزمن جاء مُعجزًا وعجيبًا في ذلك كلّه، لأنه "صُنع الله" وكلامه الذي أنزله بعلمه:
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) النساء
ومن هنا تتجلّى عظمة القرآن، وينتفي بذلك أدنى تصرف للبشر فيه، فهو وصلنا تمامًا كما نزل به أمين الوحي جبريل -عليه السلام-، وهو الذي كان يعلِّم النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- مواضع السور والآيات، تمامًا كما كان يُعلِّمه تأويلها، وبذلك فإن ترتيب السور كترتيب الآيات، وكلّه أمر واجب وحكم لازم.
التوقيفي والتوفيقي
إن ترتيب سور القرآن الكريم وآياته أمر توقيفي، أي وحي من عند الله عزّ وجلّ، وليس توفيقيًّا أو اجتهادًا من الصحابة كما يتوهَّم بعضهم، وإن عدد آيات كل سورة وعدد كلمات كل آية وعدد حروف كل كلمة هو أيضًا توقيفي، ووفق نظام وحساب دقيقين. بل ويمكنك أن تجد في بعض أحاديثه -صلى الله عليه وسلّم- ما يشير إلى ذلك، مثل قوله: "إن سورة في القرآن ثلاثين آية؛ شفعت لرجل حتى غُفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك".4 والشاهد في ذلك كلمة "ثلاثين"، فإن لم يكن أمرًا توقيفيًّا ووحيًا من عند الله عزّ وجلّ لما أشار النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- إلى عدد آيات سورة الملك.
وعلى مستوى الآيات مثل ما جاء في صحيح مسلم من قول النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- لأبي المنذر (أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ). وعلى مستوى الحرف قوله -صلى الله عليه وسلّم-: "لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"(5). وليس هذه الكلمة أو تلك الآية أو السورة استثناءً، بل في ذلك إشارة واضحة ودلالة صريحة على أن كل سورة من القرآن نزلت بعدد محدد من الآيات والكلمات والحروف، لا تزيد عليها ولا تنقص عنها.
وهناك إشارة أخرى أكثر وضوحًا في القرآن وذلك في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِيْ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيْمَ (87) الحجر
والشاهد في هذه الآية كلمة "سبعًا" التي تشير إلى عدد آيات سورة الفاتحة التي أجمع القرّاء على أنها سبع، ولم يشذ عن هذا القول أحد، مع أن بعضهم اعتبر البسملة آية من الفاتحة، وبعضهم رأى عكس ذلك، بل إنك إذا تمعَّنت في هذه الآية نفسها تجد أن عدد كلماتها سبع كلمات، في إشارة واضحة إلى أن هناك نظامًا رقميًّا دقيقًا يحكم هذا القرآن، ويتفاعل مع لفظه ومعناه.
وبذلك فإنَّ انتظام السور كانتظام الآيات والكلمات والحروف، وكلّه وحي من عند الله عزّ وجلّ نقله لنا النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- تمامًا كما سمعه من جبريل -عليه السلام-. ومَن أخَّر سورة مقدَّمة، أو قدّم أُخرى مؤخَّرة، فقد أفسد نظم السور والآيات وغيَّر تناسق الحروف والكلمات، ولا حُجَّة على أهل الحق في تقديم العلق على المدثِّر، والعلق نزلت قبل المدثِّر، لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- هو من وضع هذا الترتيب بوحي من عند الله عزّ وجلّ.
وقد اختلف العلماء في ترتيب سور القرآن، فذهب بعضهم إلى أنه توفيقي أي من اجتهاد الصحابة، وذهب بعضهم إلى أنه توقيفي باستثناء بعض السور، وفات عليهم جميعًا أن القول بتوقيفيّة السور والآيات هو إحدى دلائل النبوة، ووجه من وجوه الإعجاز، وغاب عن هؤلاء المعنى الدقيق لقول الله عزّ وجلّ:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ (9) الحجر
إذ إن الحفظ المقصود بهذه الآية لا يقتصر على المعنى والمضمون وحدهما، وإنما يدخل في ذلك أيضًا النظم والترتيب، فإن القرآن كما حُفظ في فحواه، فقد حُفظ أيضًا في نظمه وترتيب سوره وآياته وكلماته وحروفه.
6236
لقد أجمعت الأمّة على أن عدد سور القرآن 114 سورة، كما أجمعت على ترتيب سور القرآن وآياته من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، واتفقت كذلك على ألفاظ القرآن لا يُزاد فيها ولا يُنقص منها شيء، بينما لم يكن هناك اتفاق على عدد الآيات نتيجة تنوع مواضع فواصل الآيات ورؤوسها، وهو التنوع الذي يشبه إلى حدّ كبير تنوّع القراءات الصحيحة المتواترة، وتنوع الألسن السبعة التي نزل بها القرآن، ومن ذلك دمج آيتين في آية أو فصل آية إلى آيتين، من دون أن يؤثر ذلك في معنى القرآن أو ألفاظه. ومن هنا تعدَّدت الآيات بتعدد الفواصل وجاء عدد آيات القرآن عند بعضهم أكثر وعند بعضهم الآخر أقل، برغم أنَّ المضمون واحد ولا خلاف حوله، إلا في حدود ما تنوَّعت به الألسن والقراءات الصحيحة المتواترة، كما أنَّ اختلاف ترقيم الآيات من رواية إلى أخرى لا يقدح في صحة الرواية.
وإجمالًا؛ فقد جاء عدد آيات القرآن، بحسب مواضع فواصل الآيات، على سبعة أوجه، انحصرت جميعها بين 6204 آية، كحدّ أدنى، و6236 آية كحدّ أعلى(6)، والأخير يُعرف بالعدد الكوفي، وهو الأشهر والأوسع انتشارًا في العالم اليوم، وهو المعتمد في مصحف المدينة المنوَّرة، وبما يوافق رواية حفص بن سليمان بن المغيرة الأسديّ الكُوفيّ لقراءة عاصم بن أبي النّجود الكوفي التابعي عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حَبيب السُّلميّ عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- عن أمين الوحي جبريل -عليه السلام- عن رب العزَّة سبحانه وتعالى.
حفص عن عاصم
إن رواية حفص(7) عن عاصم تمثِّل أصح الروايات، وقد كتب الله لها الذيوع والانتشار في هذا العصر لحكمة يعلمها هو وحده جلّ وعلا، ويكفي من إجماع المسلمين عليها أنها الرواية التي يقرأ بها اليوم أئمة المساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى، وأنها الأكثر انتشارًا في دول المشرق جميعها، وأغلب دول الشرق الأوسط، والهند وباكستان وتركيا وأفغانستان، والدول الأوروبية ودول الأمريكتين الشمالية والجنوبية. كما أنها الأكثر انتشارًا على مواقع الإنترنت، ووسائل النشر الحديثة من التسجيلات الصوتية، والأجهزة الكفيّة والهواتف النقالة وغيرها، كما أنها أيضًا الأكثر حظًّا من الترجمة إلى لغات العالم المختلفة.
وبرغم ذلك فهناك من يأتي ويستدلّ بأقوال بعض التابعين للحكم على درجة صحة روايات القرآن المتواترة، فيقدِّم هذه ويؤخِّر تلك، ناسيًا أو متناسيًا إرادة الله عزّ وجلّ في كتابه الذي تكفَّل بحفظه، وعلى هذه الطائفة من الناس أن يستحضروا قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ (9) الحجر
وقوله جلّ وعلا: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُوْنَ (21) يوسف
ونتساءل: ألم يتكفل اللَّه بحفظ كتابه؟ أليس اللَّه بغالب على أمره؟ فكيف إذًا يكتب اللَّه لقراءة من القراءات هذا الذيوع والانتشار الواسع إن لم تكن هذه القراءة هي أصح القراءات وأدقها؟!
نُسخة من اللّوح المحفوظ
من واقع إيماننا الراسخ بقول ربنا عزّ وجلّ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ (9) الحجر
فإننا على يقين تام واعتقاد جازم بأن القرآن الكريم الذي بين أيدينا اليوم لا يختلف في شيء من مضمونه ولا نظمه وترتيبه عمّا هو عليه في اللَّوح المحفوظ، وأن المنظومة الإحصائية القرآنية التي يتناول بعض ملامحها العامة هذا الموقع تقدِّم الدليل الرقميّ الحاسم على أن ترتيب سور القرآن الكريم، وتحديد عدد آيات كل سورة، وعدد كلمات كل آية هو أمر توقيفي ووحي من عند الله عزّ وجلّ، ليس لأي أحد فيه أدنى تصرُّف، تصديقًا لقوله تعالى:
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيْرٍ (1) هود
أي أنها مُحْكَمة في لفظها ولغتها ونظمها، وكيفما نظرت إليها فهي شديدة الإحكام، وأن كل كلمة بل كل حرف قد وضعه الله تعالى بميزان دقيق وإحكام متقن، لا يتقدّم عنه ولا يتأخّر.
إن القرآن يقوم على حقائق لغوية وثوابت رقميّة مترابطة عضويًّا بعضها ببعض، فهو كتاب أحكمت آياته لغويًّا ورقميًّا من لدن حكيم عليم، فلا تجد فيه اختلافًا ولا اختلالًا من أوله إلى آخره، ولا يأتي نظامه الإحصائي البديع خصمًا من رصيد بلاغته وفصاحته، ولا يكون لسانه العربي المبين الذي أعجز فصحاء العرب وبلغاءهم عبئًا على البناء الإحصائي العجيب لحروفه وكلماته، ومن هنا تتجلّى عظمته، ويتلاشى تمامًا أي احتمال لإمكانية تقليد جانب يسير منه حتى لو آية واحدة، لأن إتقان الجانب الرقميّ سوف يخلّ بالجانب اللّغوي لا محالة، والعكس صحيح.
ولكن ما هو أعجب من ذلك كلّه هو أن النسيج الرقميّ للقرآن جسد متكامل، يتناغم أوله مع آخره وأسفله مع أعلاه، بحيث إنه إذا تغيَّرت بنية آية واحدة يتطلّب ذلك تغيير بنية آيات أخرى عديدة حتى تحتفظ المنظومة الإحصائية القرآنية بتماسكها وتناسقها، لأنَّ كل حرف في القرآن يأخذ في آن واحد ترتيبًا محكمًا داخل الكلمة والآية والسورة والقرآن كله، ومع ذلك يظل ضمن ارتباطه الوثيق بترتيبه في قائمة الحروف الهجائية، وفي نطاق ذلك كلّه فإن هذه المنظومة ليست جامدة تمامًا بل تمتاز بهامش كبير من المرونة ولها العديد من الأوجه، فهي متناغمة إذا نظرت إليها من خلال الرسم العُثماني للمصحف وعلى الدرجة ذاتها من التناغم إذا نظرت إليها من خلال قواعد الإملاء الحديثة.
قد يتساءل بعضهم: كيف يكون ذلك، والقرآن نزل ملفوظًا ولم ينزل مخطوطًا، بل عندما دوَّنه كتّاب الوحي في عهد النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- أثبتوه برسم بدائي خالٍ من علامات التشكيل والتنقيط والترقيم، واستمر الوضع على ذلك الحال فترة طويلة من الزمن؟!
نعم.. هذه الحقائق في حدّ ذاتها أكبر الأدلَّة والبراهين التي تنفي أدنى تصرف للبشر في نصّ القرآن وترتيبه. ويأبى العقل البشري الرشيد ألَّا يقبل إلا حقيقة واحدة هي أن كل آية وكل كلمة وكل حرف في كتاب الله عزّ وجلّ موضوعة في مكانها الذي هو عليه في المصحف الذي بين أيدينا الآن بوحي من عند الله عزّ وجلّ.
والبناء الإحصائي للقرآن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فكل حرف، بل كل نقطة على أي حرف من حروفه لها نظام معجز، ولها دلالة واضحة تتفاعل مع المعنى الذي ترمي إليه الكلمة، كما أن رسم كلماته وطريقة لفظها تقوم على نظام رقميّ عجيب. بل والأعجب منه أنك إذا تدبَّرت تأمّل كلمات القرآن وتأمّلت موقعها من الإعراب وحالة حروفها ومواضع مخارجها وكيفيّة نطقها وحظها من المدّ والتفخيم والقلقلة والإمالة والترقيق والإدغام والغنّة والإقلاب، وغير ذلك من الصفات، تجد في ذلك كلّه تناسقًا رقميًّا عجيبًا، ونظمًا لغويًّا دقيقًا جدًّا تحتار العقول وهي تتأمّل معانيه ومدلولاته العميقة وتضمحل الأفهام وهي تتابع مساراته المتشعّبة في أعماق القرآن كلّه لا يعلم مداها إلا الله عزّ وجلّ وحده.. فأنَّى لهذه العقول العاجزة والأفهام القاصرة أن تأتي بمثل جزء يسير جدًّا منه!
هيهات هيهات! سبحانك ربي ما أعظمك، وما أعظم كتابك الذي أنزلته على أعظم عبادك، مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- نبيّ النبيين وخاتمهم، ونبراس المتقين وإمامهم، وصفوة الخلق أجمعين وسيدهم.
فإذا كان هذا القرآن بهذه العظمة في نظمه ورسمه.. وإذا كان هذا القرآن بهذا الكمال في فحواه ومحتواه.. فلماذا إذًا ينفيه مُحمَّد -صلى الله عليه وسلّم- عن نفسه لو كان من تأليفه، كما يدَّعي خصوم القرآن حتى في عصرنا هذا؟! إن العظماء ينسبون إنتاجهم الفكري العظيم لأنفسهم لا لغيرهم، فكيف بك بسيِّد العظماء، وهو ينفي هذا القرآن عن نفسه:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِيْنَ لَا يَرْجُوْنَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُوْنُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوْحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ (15) يونس
إن نسبة نظم هذا القرآن وترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره إلى غير الله سبحانه وتعالى لا يقبلها العقل السليم ولا المنطق القويم، وكيف بك إذا علمت أن هذا الكتاب المُعجز حرفًا ورقمًا.. كلمة وعددًا، لم يكن مرقَّما ولا منقَّطًا ولا مشكَّلًا في عهد النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- ولا في عهد صحابته -رضي الله عنهم-. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يصحّ ما يزعمه خصوم القرآن الكريم بالتأليف والافتراء؟!
فمن يدّعي ذلك عليه أن يأتي بالحجج والبراهين، والقرآن قد تحدّى الأوّليّن والآخرين، ليس بألفاظه فحسب، وإنما في نظامه الرقمي أيضًا، ومن يستعصِ عليه فهم معانيه ففي لغة الأرقام معانٍ واضحة وحقائق يقينية ثابتة وبراهين ساطعة لا يجهلها جاهل فضلًا عن عالم.
--------------------------------------------------------------
المصدر:
مصحف المدينة المنَّورة برواية حفص عن عاصم (وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة).
الهوامش:
1 الطبقات الكبرى، ابن سعد البغدادي، ج 8، ص 28 – 34، دار صادر، بيروت.
2 تأريخ القرآن، إبراهيم الابياري، دار الكتاب المصري – القاهرة، 1991 – ص 63.
3 عبد السلام غجاتي، القرآءات القرآنية والدرس اللغوي العربي – جهود أبي عمرو بن العلاء ويعقوب بن أبي إسحاق الحضرمي أنموذجًا، مجلة "الدراسات اللغوية" العدد رقم 6 عام 1431 هـ – 2010 م.
5 رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد.
6 أخرجه البخاري والترمذي والبيهقي وصحَّحه الألباني.
7 لمزيد من التفصيل يمكن مراجعة كتاب "ناظمة الزُّهر" للإمام الشاطبيّ، وغيرها من الكتب المدوّنة في علم الفواصل.
8 حفص هو ربيب عاصم، أي ابن زوجته، وأخذ القراءة عرضًا وتلقينًا عن عاصم، وأقرأ بها في الكوفة وبغداد ومكة.