إن القرآن العظيم مُعجز في كل شيء فيه، فمن يفته إدراك معاني كلماته، ففي أرقامه معانٍ أخرى لا تقل فصاحة، فأما المؤمنون فيفرحون بما رأوا في كتاب ربهم عزّ وجلّ، ويزدادون إيمانًا على إيمانهم، وأما الكافرون به والمكذِّبون والمتشككون في مصدره فلعلهم يستدركون قبل فوات الأوان، ويدركون عظمة هذا القرآن، ويؤمنون به.
إن القرآن الكريم معجز في بيانه وفصاحته وبلاغته، وفي أحكامه ونظمه وترتيب سوره وآياته وكلماته، وفي رسم حروفه ومواقعها، وفيما يدعو إليه من معتقدات وعبادات، وفي منهجه التربوي والأخلاقي، وفي الإشارات الكونية التي يُحدّث بها والغيبيّات التي يخبر عنها، وفي ضوابطه الاقتصادية والإدارية، وفي منهجه الشمولي، وفي دقة حفظه وصونه والعناية به، وفي وقعه على النفوس والقلوب، وفي حلاوة ألفاظه، وفوق ذلك كلّه فهو الكتاب الوحيد الذي تحدّى اللَّه به الإنس والجن، الأولين منهم والآخرين، فرادى ومجتمعين.
هكذا يأتي القرآن الكريم منهجًا سماويًّا يُنظِّم حياة الفرد والمجتمع، وهو في الوقت نفسه معجزة مصاحبة وملازمة للمنهج لا تنفكّ عنه إلى قيام الساعة، وبذلك ينفرد القرآن بخاصية لا توجد في الكتب السماوية السابقة التي كانت تأتي بمنهج فقط، أما المعجزة فشيء آخر منفصل عن الكتاب والمنهج! وقد تأمّلت وجوه إعجاز القرآن الكريم التي تبدّت للبشرية حتى الآن، فرأيت أنها تقف جميعها على مسافة واحدة من قدرات البشر، فلا يظن أحد أن إمكانية تقليد وجه من هذه الوجوه هو أسهل من غيره، بل جميعها معجزة وبالقدر نفسه.
وقد تفكّرت كثيرًا في نظم حروف القرآن العظيم وكلماته من ناحية إحصائية ورياضية بحتة، فرأيت أن البشرية بأسرها لن تستطيع نظم سورة واحدة من هذا القرآن العظيم! وإذا أردت أن تفهم البناء الرياضي لأي سورة أو حتى آية في القرآن الكريم فعليك أن تفهم أولًا سلوك الأعداد الأوّليّة الصمّاء، حيث لا يمكن تتبّع مسارات النسيج الرقمي القرآني المعجز إلّا من خلال فهم سلوك هذه الأعداد وطريقة توزيعها، وذلك لأن كل حرف وكل كلمة وآية وسورة في القرآن قائمة على نظام إحصائي دقيق جدًّا من هذه الأعداد الأوّليّة التي لا تزال سرًّا ولغزًا محيّرًا، ولا يزال العلماء في حيرة من أمرهم بشأن طريقة توزيعها. وإن النسيج الرقمي القرآني بقدر ما هو معقَّد فإنه يلتقي مع الأعداد المركّبة في العديد من المواضع التي يمكن فهم بعض مدلولاتها الرقميّة المتعددة، ولذلك تعرّضنا لنماذج محدودة منها في ثنايا هذا الكتاب.
إن البناء الإحصائي العجيب والنسيج الرقمي المدهش للقرآن العظيم هو امتداد لمسيرة التحدِّي في هذا الزمان، ووجه آخر من وجوه إعجازه، وهو وحده الذي يقدّم دليلًا علميًّا حاسمًا على أن ترتيب سور القرآن الكريم، وعدد آياته وكلماته، أمر توقيفي ووحي من عند اللَّه عزّ وجلّ، حيث لا يقبل العقل السليم والمنطق القويم أن يكون شيء من ذلك جهدًا أو اجتهادًا بشريًّا، وهذا لا يعني أن هذا الوجه بديل لما هو معروف من وجوه إعجاز القرآن الأخرى، وإنما هو إثراء لتلك الوجوه. وميزة هذا الوجه عن غيره أنه بلغة الأرقام، وهي لغة الحقائق المادية الملموسة، اللغة العالمية المشتركة بين الناس كافة، التي لا تختلف حولها الآراء، وهي كذلك لغة الأدلة والبراهين التي لا يمكن إنكارها أو الزعم بجهل دلالاتها.
يتدرّج القرآن العظيم بالقدر المطلوب للتحدِّي، بما يدلّ على ارتقاء التحدِّي. وكلما تدرّج القرآن في مطلب من مطالب التحدِّي ارتقى بذات القدر. فبعد أنْ تحدَّى المكذبين به بأنْ يأتوا بمثله، تدرّج وتحدَّاهم أن يأتوا بعشْر سُور من مثله، ثم تدرّج أكثر وتحدَّاهم بسورة واحدة، وكلما تدرّج معهم درجة ارتقى بالتحدِّي درجات، ولذلك جاءت مستويات التحدِّي بالقرآن العظيم على خمسة مستويات.
المستوى الأول: التحدِّي بمثل القرآن العظيم كاملًا
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُوْنَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيْرًا (88) الإسراء
المستوى الثاني: التحدِّي بمثل القرآن من غير تحديد قدر معيّن
أَمْ يَقُوْلُوْنَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُوْنَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيْثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِيْنَ (34) الطّور
المستوى الثالث: التحدِّي بعشر سور من مثل القرآن
أَمْ يَقُوْلُوْنَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ (13) هود
المستوى الرابع: التحدِّي بسورة واحدة من مثل القرآن
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُوْرَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ (23) البقرة
المستوى الخامس: التحدِّي بسورة واحدة وأن يستعينوا بكل من يستطيعون
أَمْ يَقُوْلُوْنَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُوْرَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ (38) يونس
هكذا تدرّج القرآن الكريم في المطلب على خمس مراحل وبالقدر نفسه ارتقى في التحدِّي الذي استقر عند سورة واحدة فقط من مثله، قصيرة أو طويلة، مفتراة أو صادقة. وقد أباح القرآن العظيم للمكذبين به والمعاندين له أن يدعوا لمعاونتهم ومساعدتهم في بلوغ غايتهم كل من يستطيعون دعوته سوى اللَّه عزّ وجلّ! ولذلك جاءت كلمة "سورة" في آيتي المستويين الرابع والخامس منكرة، للإِشارة إلى أنه لا يطالبهم بسورة معيّنة، وإنما أباح لهم أن يأتوا بأي سورة من مثل سور القرآن العظيم، حتى لو كانت كأصغر سورة فيه، وهي سورة الكوثر التي لا يتجاوز عدد كلماتها 10 كلمات فقط.
وهكذا يأتي القرآن العظيم معجزًا بكل الوجوه، ونظمه الرقمي العجيب واحد منها!
ويأتي القرآن العظيم معجزًا لكل الأزمنة، وزماننا هذا واحد منها!
ويأتي القرآن العظيم رسالة اللَّه للعالمين كافة، وأنت واحد منهم!
ولكن المكابر والمعاند يبحث عن أي ثغرة لينفذ منها، حتى لو كانت مثل سَمَّ الخياط!
فهو يثير الشبهات، ويدّعي في القرآن الكريم ما ليس فيه، فقط ليصدّ الجاهلين به عنه!
وهو يعلم قبل غيره بأنه يفتري الكذب، وأنه يستغل ضعف ملكات اللُّغة عند بعض الجاهلين!
وكلُّ من يدّعي شبهة أو عيبًا في القرآن فاعلم أن العيب في فهمه وفكره وقصده لا في القرآن!
لقد استمعنا إليهم وهم يتحدّثون فما رأينا على وجه الأرض أجهل منهم!
واطّلعنا على حججهم وادّعاءاتهم الواهية فهي أتفه من أن يُرد عليها!
وعلى المكذبين أن يعلموا حجم هذا التحدِّي على حقيقته، فهو ليس تحدِّيًا لغويًّا أو بيانيًّا فحسب، كما كان يُتوهّم، ولكنه تحدٍّ يخفي في باطنه العديد من المضامين المعجزة التي لا يستطيع البشر أن يقلّدوا أي جانب منها، ومن ذلك البناء الإحصائي المعجز، ليس للقرآن العظيم بكامله فحسب، وإنما لآيات التحدِّي في ذاتها. فتأمّل التحدّي الذي ترفعه الكوكبة التالية من الآيات:
- قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُوْنَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيْرًا (88) الإسراء
- أَمْ يَقُوْلُوْنَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ (13) هود
- وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُوْرَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ (23) البقرة
- أَمْ يَقُوْلُوْنَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُوْرَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ (38) يونس
تأمّل كيف تدرّج القرآن العظيم وهو يتحدّى المكذبين به!
طالبهم بأن يأتوا بمثله..
ثم ارتقى وطالبهم بأن يأتوا بعشر سور مثله!
ثم سما وارتقى وطالبهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله!
ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان فشل أعداء القرآن العظيم في تقليد سورة واحدة منه!
أي سورة.. لا يهمّ طولها أو قصرها!
لقد فشلوا بيانيًّا ولغويًّا وغيبيًّا وعلميًّا وتشريعيًّا ومنهجيًّا!
فهل يا تُرى سوف ينجحون في محاكاة نظم القرآن رقميًّا؟!
ولكن أي عقل يستطيع أن يحيط بهذا النظم، ناهيك عن تقليده أو الإتيان بمثل بعضه!
------------------------------------------------------------
المصدر:
مصحف المدينة المنَّورة برواية حفص عن عاصم (وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة).